إن القول المأثور الذي تقوله الجدات دائما بأنه تزداد الإصابة بفيروس الإنفلونزا في الطقس البارد لا يخلو من الصحة؛ ويبدو أن ارتباط زيادة الإصابة بفيروس كورونا بفصل الشتاء واضح أيضا، حيث من المتوقع أن تزداد الإصابات أضعافا مضاعفة مع اقتراب فصل الشتاء. وهناك مخاوف أن الفيروس التاجي سيزداد شراسة وقوة مع تغير الفصول، وربما يؤدي إلى موجة ثانية من المرض أكبر من الأولى، وهذا ما ظهرت بوادره بالفعل في العديد من البلدان.
في الواقع ليس الطقس البارد في حد ذاته هو الذي يسبب هذه الأمراض التنفسية، بل الكائنات المسببة للأمراض؛ فمن المعروف أن فيروس كورونا ينتشر بشكل أساسي من خلال التلامس (عبر القطرات والهباء الجوي) ويمكن أن يحدث انتقال بعيد المدى بالجوّ عبر الهباء الجوي (الرذاذ) خاصة في الأماكن المغلقة ذات التهوية غير الكافية. * ولكن ما هي الآلية التي تسهّل بها درجات الحرارة الباردة انتشار التهابات الجهاز التنفسي؟ هناك عدد من العوامل التي يمكن أن تساهم في ارتفاع معدلات الإصابة بفيروس كورونا خلال فصل الشتاء، منها: 1. الاختلاف الموسمي تأثير الاختلاف الموسمي في حدوث التهابات الجهاز التنفسي أمر راسخ وحتمي، وعلى غرار جائحة إنفلونزا H1N1 لعام 1918 (الإنفلونزا الإسبانية)، وهو الأكثر فتكا في التاريخ الحديث، نشهد زيادة متسارعة في COVID-19 مع اقترابنا من موسم البرد، ومع ذلك لا يوجد إجماع قوي في المجتمع العلمي على سبب حدوث هذا التباين الموسمي. فهناك أربعة أنواع أخرى من فيروس كورونا والتي تسبب أعراض نزلات البرد وينتشر كل منها بسهولة أكبر في الشتاء مثل الإنفلونزا وفيروسات الأنف التي تسبب أيضا نزلات البرد والفيروس المخلوي التنفسي (RSV)، لها سلوكيات مماثلة، لذا تم الاعتماد على هذه المقارنة مع COVID-19 لترجيح زيادة انتشاره في فصل الشتاء.
ويشترك فيروس COVID-19 في خصائص الانتقال الأساسية مع فيروس الإنفلونزا، على الرغم من وجود اختلافات كبيرة ويفترض أن خطر العدوى وشدتها هي دالة للتفاعل بين العامل أو الكائن المسبب والمضيف (الشخص المعرض للعدوى) والبيئة. ويمكن أن يتأثر كل عامل من هذه العوامل بخصائص أخرى مثل درجة الحرارة والرطوبة التي يمكنها تعديل ديناميكيات العدوى. 2. الغشاء الدهني مثل فيروس الإنفلونزا فإن فيروس COVID-19 هو فيروس مغلف، أي أنه يحتوي على غشاء دهني يحافظ على السلامة الهيكلية للفيروس ويسمح بحماية ونقل الحمض النووي RNA الخاص به إلى الخلايا المضيفة المناسبة حيث يتكاثر ويبدأ عدوى جديدة. وأظهرت الأبحاث التي أجريت على فيروس الإنفلونزا أن هذا الغشاء الدهني الخارجي يتصلب عند درجات حرارة أعلى بقليل من درجة التجمد، مما يتيح بقاء هذا الغشاء السميك أو الغلاف الخارجي المطاطي للفيروس على قيد الحياة في درجات حرارة منخفضة، والانتقال من شخص لآخر.
لذلك فمن المعقول بيولوجيا أن يتكيف فيروس COVID-19 بشكل مشابه مع الطقس البارد مما يؤدي إلى تطوير غشاء أسمك يجعل الفيروس أقوى وبالتالي يحتمل أن يكون أكثر انتشارا، وهذا يزيد من احتمالية تعرض مضيف محتمل أو شخص حساس للفيروس للعدوى. 3. تفاعل الفيروس مع الحرارة والرطوبة الدوافع البيئية الرئيسية لارتفاع حالات الإنفلونزا الشتوية هي درجة الحرارة والرطوبة، وتم إثبات ذلك أيضا بالنسبة ل COVID-19، حيث يعيش الفيروس لفترة أطول في الهواء البارد والجاف والرطوبة المنخفضة كما هو الحال في فصل الشتاء. ويزيد انخفاض الرطوبة في فصل الشتاء من تبخر القطرات الفيروسية التنفسية إلى جزيئات ضبابية أصغر، يمكنها أن تبقى لفترة أطول في الهواء مما يزيد من خطر انتقال العدوى عبر الهواء في الشتاء. 4. ارتباط الشتاء بالبقاء أكثر في الأماكن المغلقة كما أن هناك عدة عوامل بيولوجية ونفسية واجتماعية تزيد من مخاطر وشدة التهابات الجهاز التنفسي، بما في ذلك COVID-19، هي زيادة المكوث في الأماكن المغلقة والاكتظاظ، والتي من المرجح أن تحدث خلال فصل الشتاء، ومع البقاء فترة أطول في الأماكن المغلقة وانخفاض الرطوبة يزيد بشكل كبير من انتقال العدوى. كذلك يؤثر البقاء في الأماكن المغلقة وقلة فترات التعرض لأشعة الشمس، على مستوى (فيتامين د) في الجسم، حيث يتم إنتاجه أثناء التعرض لأشعة الشمس، وقد ثبت أن له تأثيرا وقائيا ضد التهابات الجهاز التنفسي من خلال ارتباطه الإيجابي بصحة المناعة. وقد ينضب مستوى فيتامين (د) خلال الشتاء بسبب البقاء في الأماكن المغلقة وقلة التعرض لأشعة الشمس، ما يزيد قدرة فيروس كورونا الجديد على إصابة الجسم.
5. جفاف ممر الأنف في الشتاء عامل آخر متعلق بالمضيف ومرتبط بالشتاء، هو جفاف ممر الأنف بسبب انخفاض الرطوبة وهذا يمكن أن يزيد من التعرض للعدوى عن طريق إتلاف الغشاء المخاطي للأنف مما يسهل على الفيروس غزو الجسم.
لا يزال COVID-19 أو فيروس كورونا جديدا، ومعرفتنا بديناميكيات انتقاله لا تزال تتطور، وجميع العوامل التي ذكرناها بالإضافة إلى المستوى العالي من قابلية الانتقال (خاصة الانتقال بدون ظهور أعراض) يزيد من ضراوة الفيروس وسرعه انتشاره وحدة الإصابة بالعدوى. لذلك يمكن لوباء COVID-19 أن يوازي جائحة إنفلونزا 1918 إذا فشلنا في الامتثال للتدابير الوقائية التي أوصت بها سلطات الصحة العامة.