لم تمض سوى أسابيع قليلة على تلك الزيادة الهزيلة في الأجور، التي طبل وزمر لها رئيس الحكومة والأمين العام لحزب "العدالة والتنمية" سعد الدين العثماني، والتي ينطبق عليها القول: "صام عام وفطر على جرادة"، حتى طفا على سطح الأحداث جدل واسع حول مشروع القانون التنظيمي للإضراب رقم 15- 92، المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، الذي ظل مركونا في رفوف المؤسسة التشريعية منذ أزيد من سنتين. فلا حديث هذه الأيام في المقاهي وعبر منصات التواصل الاجتماعي إلا عن ما يتم التحضير له من محاولة الالتفاف على أحد أبرز المكتسبات الاجتماعية، المتمثل في حق الإضراب الذي يكفله الدستور وجميع المواثيق الدولية، باعتباره أقوى سلاح تملكه الشغيلة في مواجهة الظلم والقهر والتهميش والدفاع عن حقوقها وحماية مكتسباتها... ولعل أشد ما بات يتخوف منه الموظفون والعمال في القطاعات العمومية وشبه العمومية والخاصة، هو أن يكون هناك تواطؤ آخر لا يقل نذالة عما سبق اعتماده في تمرير المخطط الجهنمي للتقاعد، عبر اتفاق خفي بموازاة مع الاتفاق الثلاثي الموقع عليه مساء يوم: 25 أبريل 2019 من لدن الحكومة وثلاث مركزيات نقابية والاتحاد العام لمقاولات المغرب، الذي تم بموجبه إقرار زيادة تمتد على ثلاثة أعوام. حيث أن التجارب السابقة علمتهم أن الدولة لا تعطي بدون مقابل. فما تمنحه من امتيازات وتعويضات وأجور ومعاشات إضافية ودعم المنظمات النقابية والأحزاب السياسية، ليست سوى أشكالا ريعية، لخدمة مصالحها وتمرير القوانين المجحفة وضرب المكتسبات الاجتماعية، وهي القاعدة التي ربما يكون رئيس الحكومة السابق وصاحب أكبر معاش استثنائي عبد الإله ابن كيران، استلهم منها فكرة معادلته اللاشرعية "الأجر مقابل العمل" في نسف الإضراب، بالاقتطاع من أجور المضربين عن العمل. وجدير بالذكر أن مشروع القانون التنظيمي المختلف بشأنه حول مفهوم الإضراب وطريقة تنفيذه، الذي صيغ بشكل انفرادي من قبل الحكومة السابقة دون إشراك المركزيات النقابية الأكثر تمثيلية، وصادق عليه المجلس الوزاري المنعقد في 26 شتنبر 2016، يتشكل من 59 مادة وينص في مستهلها على بعض التعقيدات التي تفسح المجال أمام المشغل للمناورة من أجل إفشال الإضراب. مما يوحي بأن من ضمن ما جاء ابن كيران لأجله، هو: إبطال اتفاق 26 أبريل 2011 الذي تم في عهد حكومة الوزير الأول عباس الفاسي الأمين العام الأسبق لحزب الاستقلال، وتجميد الأجور والمعاشات وتحرير أسعار المحروقات ورفع الدعم عن المواد الأساسية بدعوى إصلاح صندوق المقاصة وضرب التقاعد والإضراب والوظيفة العمومية والمدرسة العمومية وغير ذلك من القرارات التعسفية. ولأن العثماني لا يختلف كثيرا عن سلفه ابن كيران إن لم نقل بأنهما وجهان لعملة واحدة، فقد فشل هو الآخر في محاربة الفساد واقتصاد الريع وإسقاط معاشات البرلمانيين والوزراء، واتضح أنه لم يأت لاستدراك النقائص واستكمال البناء الديموقراطي وفتح الأوراش الكبرى المرتبطة بإصلاح منظومتي التعليم والصحة والحد من معدلات الفقر والأمية والبطالة والتفاوتات الاجتماعية والمجالية وتوفير العيش الكريم وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإنما جاء لإتمام ما بدأه صاحبه من استنزاف القدرة الشرائية للمواطنين وتراجع عن أهم مكتسباتهم وخنق الحريات، وتنزيل قانون الإضراب. فهل يتوافق "المشروع" وتطلعات الطبقة العاملة وعموم المغاربة الذين ظلوا يترقبون ميلاده منذ سنوات، للإسهام في تطوير العلاقات المهنية والنهوض بمستوى المفاوضات الجماعية، ووضع حد لما بات يضر بمفهوم الإضراب وضوابطه المنصوص عليها دستوريا وفي المواثيق الدولية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تطالب المركزيات النقابية بسحبه من البرلمان والعودة إلى طاولة الحوار والتفاوض بشأنه؟ فمشروع قانون الإضراب 15-92 وبشهادة عدد من الملاحظين والمهتمين بالشأن النقابي، جاء مخيبا للآمال ومخالفا لروح الوثيقة الدستورية، وما ترمي إليه من تنظيم حقيقي للإضراب وضمان ممارسته بشكل قانوني وفي ظروف طبيعية، ويتفق الجميع على أنه من أسوأ القوانين وأخطرها، إذ يتجه نحو تكبيل الإضراب وإفراغه من حمولته النضالية والتضامنية لما تحكمه من شروط تعجيزية وترهيبية. فكيف للطبقة العاملة إن تمت المصادقة عليه في البرلمان، أن يكون بوسعها رفع رأسها والتعبير عن همومها وانشغالاتها والدفاع عن حقوقها وتحصين مكاسبها، إذا ما حرمت من ذلك الحق الدستوري الذي قدم في سبيله المناضلون الشرفاء تضحيات جساما؟ وهل تريد الحكومة ومن يقف خلفها ويؤيدها، تجريد الأجير من إنسيته وتحويله إلى مجرد آلة للإنتاج، تخضع لإرادة المسؤولين من مديرين ورؤساء...؟ ولأن الأمثلة كثيرة ومتنوعة عن فظاعة القانون "التخريبي" للإضراب، الذي يمكن الرجوع إلى مقتضياته في الشبكة العنكبوتية، فإننا نكتفي بالإشارة إلى إجماع المركزيات النقابية على عدم صلاحيته، لما يعتوره من اختلالات، تعيق ممارسة الإضراب وتحول دون حرية التعبير، مما قد يؤدي إلى ردود أفعال سلبية تنعكس آثارها على سلوك وأداء الأجراء. وتدعو إلى ضرورة التعجيل بالعودة إلى التفاوض الجماعي الثلاثي، وفق المنصوص عليه في المواثيق الدولية، والذي يمكن بواسطته تجاوز العقبات والتوافق حول صياغة قانون جديد، عوض الاقتصار على التشاور الكتابي عن بعد، كما طالب بذلك وزير التشغيل محمد يتيم. هل يساهم العثماني في تليين الأجواء أم سيراهن على أغلبيته البرلمانية في تمرير القانون الكارثي، ضاربا عرض الحائط بمبدأ التفاوض الإيجابي، الذي يفترض أن يكون منطلقا لبلورة مثل هذه القوانين المصيرية؟ فلتتحمل الحكومة والمركزيات النقابية والنخب السياسية مسؤولياتها التاريخية.