لا يخفى علينا جميعا، أن المشاكل مطروحة في الطريق تصادَفُ بين الفينة و الأخرى، و لا يخفى أنها مرتبطة ببنية عوامل متناقضة و متصادمة داخل منظومة من الحقول المعرفية و الثقافية... و الاجتماعية نخص بالذكر -هنا- مشكل من مشاكل العلوم الإنسانية، و هو "أحداث الحافلة" باعتبارها أنموذجا مصغرا، هذه الأخيرة استوقفت، الرأي العام، العيون المُتَتبِعة و العيون المتَابَعة بمجموعة من التساؤلات، لعل أبرزها التالية: ماذا وقع؟ و لماذا يقع هذا؟ أ فعلنا أم لم نفعل؟ بعيدا عن المحاكمات الصورية الانطباعية الذاتية، قريبا من المحاكمات الموضوعية تكون رؤيتنا للموضوع أقرب (من حيث الحكم عليه؛ و من حيث المنظور الموضوعي المشترك بين مجموعة من الباحثين) إذا كانت من الداخل -أولا- و ليس من الخارج -ثانيا- و نقصد هنا بالداخل؛ الدخول للحافلة، و من ثمة، النظر بعيون المراهقين (المفعول بهم) محايثةً1[1]، و الخارج -ثانيا- الخروج من الحافلة و النظر بعين عامة و عين خاصة معا، قصد النبش في ذاكرة الطفولة، و الكشف عن بصمات المنظومة الاجتماعية داخلها، و محاولة الكشف عن العلاقة بين الهو (الغرائز..) و الأنا الأعلى (المجتمع..) بلغة "فرويد".
أولا: الداخل- في الحافلة:
إن مشاهدة الشريط الذي نشر على مواقع التواصل الاجتماعي أثار ضجة داخل الوسط- العالم الالكتروني المغربي و انتقل إلى العالم العربي (قناة مصرية بثت الشريط؟!) ليصبح ،حديث الراهن، جوابا على سؤال إعلامي و طني و دولي "ماذا وقع في المغرب؟"
وقع ما لم نتوقعه من الأطفال المراهقين، حيث ظهروا في الشريط يستفزون فتاة –بدت في البداية مخدرة- لنعلم فيما بعد أنها (مختلة عقليا)، و بعد الاستفزاز مباشرة بدأ الاغتصاب؛ اغتصاب صُوحبَ بسؤالين فرعيين:
لماذا لم يحرك أحد من ركاب الحافلة (غير الأطفال) ساكنا، و يدافع عن الفتاة؟ و لماذا لم ينتبه سائق الحافلة لما يقع داخلة حافلته؟ يبدو من الشريط أن الحافلة كانت فارغة و هذا حسب ما نعتقد فرصة للقيام بفعلي الاستفزاز و الاغتصاب. أما موضوع السائق نعتقد -ليس من باب التبرير، بقدر ما هو من باب الافتراض- أن سائقي الحافلات في البيضاء لا ينتبهون للركاب بقدر ما ينتبهون للطرق المكتظة بالسيارات... و الراجلين. و هذان الافتراضان -حسب ما نعتقد- هما مخرج من الحافلة إلى:
الخارج -ثانيا- خارج الحافلة:
يظهر لنا من خلال سن الأطفال المراهقين و الطفلة (المختلة عقليا) أننا لسنا أمام مجرمين كبار؛ بل أمام صورة مصغرة (للإجرام) الموجود داخل المنظومة الاجتماعية و الثقافية.. وهذا ما يُظهر التناقض بين سن الأطفال و فعل الأطفال، بين نظرة مكونات المنظومة الاجتماعية للمختل و استنكارها لفعل الاعتداء على المختل.
إذًا، لماذا هذا يقع؟ و كيف شارك المجتمعُ الأطفالَ الفعل؟
للإجابة على هذا التصادم بين الأسماء (الأطفال) و الأفعال (يغتصبون- يشارك) وجب الإشارة –و باختصار- إلى نظريات التي اهتمت بمراحل نمو الأطفال و اكتسابهم للمعلومات (شومسكي- بياجي- سكنر- جان لوك...) و التي اعتبرت الوسط أو الفضاء الاجتماعي هو المسؤول الأساس عن هذه المراحل وعصا الرحى المنتجة لسيرورته.
و عليه- بهذا، نربط أسماء "الأطفال" بالبراءة (لم نفعل)، و الأفعال بالمنظومة الاجتماعية (فعلنا).
لذلك- إذا، يجب الاعتراف بأن المنظومة الاجتماعية (الأسرة ، و المدرسة، الإدارت التلفزية، و إدارات الأنترنت...) أو الوسط الاجتماعي هو المورط و المتهم الأول، بحيث:
- الأسرة:
"لا تربي لزمن غير زمانها"2[2]؛ بمعنى أنها تربي كما تم تربيتها، وبهذا تكون التربية -حسبها- هي نسخ لتجربة ماضية حاضرا و مستقبلا.
- المدرسة:
يقتصر دورها -حاليا- على القراءة و الكتابة فقط، و لا ترغب من خلال مقاربتها (مناهجها) أن تكون المربي الملازم و المصاحب للإطفال.
- الإدارات التلفزية:
هَمُها مادي و اديولوجي ،بالدرجة الأولى، و يتجلى هذا من خلال الأفلام المدبلجة ذات حمولة فكرية و ثقافية غير ملائمة لمجتمعنا جله إذا لم نقل كله، لا يقرأ، و التي تعرض لقطات إباحية.. أحيانا مرسخةً ،في أذهان المشاهدين العامة عموما و الأطفال على وجه التحديد، صورا تمسي ،مع الوقت، مصحوبة بصور ذهنية ناتجة عن انشقاق تخيل من الخيال (الاستمناء..).
- إدارات الانترنت (آل الاتصال و التواصل):
تخير الإنسان بين السلبي و الموجب، بين النافع و الضار. و لكن الضير كله هو: أن تَرسُخَ الصور (صور لقطات إباحية) ملموسة في ذهن المشاهدين (المفعول بهم)، و تحيطها بصور الخيال و التخيل، مما يولد كبتًا و أفعالا سلبية- و حسب بعض ملاحظين: "فإن أكثر من نصف الأطفال المراهقين المدمنين عن زيارة فضاءات الأنترنت (sybir)، إذا جلسوا وقتا طويلا أمام شاشات الحواسيب، يلاحظ أنهم مروا على مواقع إباحية"3[3]. و هذه الشهادة تحذر من جهتها الخطر السلبي للعالم الافتراضي الالكتروني.
سنحاول القول، بناءً على ما تقدم: إن الأطفال ليسوا سوى نِتاج- حصاد لزرع المنظومة الاجتماعية (الأسرة- المدرسة- الإعلام..) هم زرع صالح في تربة صالحة أو العكس، ألم يقدم المرحوم المهدي المنجرة قراءة مستقبلية ،سابقا، حين قال: إذا أردت أن تهدم حضارة أمه فهناك وسائل ثلاث و هي:
الأسرة؛ لهدم اﻷسرة:عليك بتغييب دور (اﻷم) اجعلها تخجل من وصفها ب"ربة بيت" التعليم؛ لهدم التعليم: عليك ب(المعلم) لا تجعل له أهمية في المجتمع وقلل من مكانته حتى يحتقره طلابه. القدوات والمرجعيات؛ لنسقط القدوات: عليك ب(العلماء) اطعن فيهم قلل من شأنهم، شكك فيهم حتى لا يسمع لهم و لا يقتدي بهم أحد. فإذا اختفت (اﻷم الواعية)، و اختفى (المعلم المخلص)، و سقطت (القدوة والمرجعية)، فمن يربي النشء على القيم الإنسانية؟! من ها هنا تكون المنظومة الاجتماعية الكبيرة (المُنتج للطفولة) هي المتهم الأول الذي يجب أن توجه له الأسئلة التي صاحبة "أحداث الحافلة ،و أحداث سيدي قاسم".
و حتى لا تكون مقاربتنا المتواضعة للموضوع خروجا عن صلب الموضوع ذاته، نطلب من أهل العلوم الإنسانية و أهل العلوم الحقة الاهتمام بالطفولة بِعَدها مرحلة أساس و رأس مال المجتمع الناجح، و ذلك بالتنظير لتربيتها و حمايتها من الاختراق الثقافي و الاديولوجي و السياسي...
[1] مفعول بهم؛ لأنهم مازالوا ينفذون ما تم اكتسابه من المجتمع المتعالي- الكبير.
[2] قولة نسبت للأمام علي رحمه الله.
[3] من نقاش مع بعد مراقبين مشتغلين بفضاءات الانترنت (sybir).