مع اقتراب موعد امتحانات البكالوريا تدخل العائلات المعنية بهذا الرهان حالة استنفار غير عادية، يضع الأباء أيديهم على قلوبهم، وينصب كل التركيز على الابن الممتحن، يراقبون كل حركاته وسكناته وهو على بعد أيام قليلة من يوم الحسم، ينظرون إليه وهو مستغرق في مراجعته بعطف دافق يرافقه تخوف و توجس من نتائج الامتحان، ودوا لو ساعدوه وأدخلوا كل ركام الدفاتر والكتب إلى رأسه الصغير في دقيقة واحدة ليحفظها كل الحفظ، ودوا لو"يضربون الخط "فيعرفوا موضوع الاختبار فيدلوه ويوفروا عليه عناء التخبط بين هذه الفقرة وتلك، ودوا لو ينجح ينجح بأية طريقة. يزداد توترهم ويهولون الأمر وكأننا أمام نهاية العالم، كلما رأوه ضاحكا لاهيا بعض الوقت صرخوا في وجهه: “خذ كتبك وراجع لا تنس أن الضياع وراءك والامتحان أمامك …”، يقترب اليوم الموعود وتصل حالة الاستنفار درجتها القصوى، ترتفع الأصوات بالدعاء المتكرر للابن، وترتفع درجة حرارته إلى مستوياتها القياسية ويبدأ بالشعور بحموضة غير عادية في معدته وكأنها مياه ساخنة تسري في أمعائه … تتبعثر المعلومات في ذهنه وتختلط الجغرافيا بالتاريخ والفزياء بالكمياء، وتتداخل أشياء و أشياء… وكم من مادة قال أنه ضبطها كل الضبط لكن ما أن يرفع حاجبيه ليتفقدها حتى يجدها قد تبخرت من عقله الصغير في آخر لحظة … وتصير في هذه الحالة كل وسائل الدفاع عن النفس وانتزاع الباك مشروعة، ينطلق إلى قاعة الامتحان في حالة حرب إما النجاح و إما الاستشهاد في ساحة المعركة … على هذا المنوال للأسف نجد عائلات كثيرة تخطئ التصرف في التعامل مع أبنائها الممتحنين، فالمبالغة في الاهتمام بموضوع امتحانهم وحرصهم على تتبع استعدادهم للامتحان غالبا ما قد يأتي بنتائج عكسية، تتمثل أساسا في رفع درجة الارتباك لدى التلميذ و دفعه إلى محاولة سلك أية طريقة من أجل انتزاع شهادة الباك، حتى أننا نرى بعض التلاميذ المجتهدين يرتضون الغش وسيلة في آخر لحظة، بل من التلاميذ من يصير مستعدا للتقاتل بكل الوسائل مع أطر الحراسة من أجل إنقاذ نفسه من جحيم التكرار، لهذا فعلى الآباء أن يدركوا جيدا أن تتبعهم المبالغ فيه لابنهم في اللحظات الأخيرة قبيل الامتحان إن لم يضر فهو لا ينفع أبدا، وهو أمر بالفعل بسذاجته هذه أشبه ما يكون بمن يحاول تسمين خروف في الخمسة أيام الأخيرة المتبقية ليوم العيد، إذ لا ينفع حينها شمندر ولا شعير، فالمفروض المفروض أن يظل الآباء على اهتمام متواصل بدراسة الأبناء مراقبة و تشجيعا طيلة السنة، أما أن يطالبوهم بغتة بالنجاح في آخر المشوار فذلك يهول عليهم الأمر ويخلق فيهم مزيدا من التوتر والقلق، إلى درجة أن هناك من التلاميذ من يدخل في حالة رهاب حقيقية بخشيته ردود فعل أسرته في حالة
رسوبه أكثر مما يخشى من الرسوب في حد ذاته، وكأنه إن نجح ينجح لأسرته وإن رسب فإنه يرسب لأسرته، مما ينزع من لاوعيه بشكل غير مباشر الشعور بالمسؤولية عن ذاته متعودا دائما انتظار المنبهات والموجهات الخارجية التي قد تحضر أحيانا وتغيب أحيانا أخرى، وإن كان من المفيد فعلا مثل هذا التنبيه ليحفز التلميذ فيتعلم العيش لغيره لا لذاته فقط، لكن بشرط أن يكون ذلك عن اختيار واع يعبر عن نضجه و إنسانيته الحقيقية الحرة .
إن الابن لا ينبغي أن نحسسه أبدا بأنه موضوع استثمار مادي بالنسبة لنا، فيكفي أننا حاولنا تربيته تربية حسنة تكون لنا صدقة جارية في المستقبل، ثم أنه لا ينبغي من جهة أخرى أن نزيد من تكريس عقدة البكالوريا في نفوس الأبناء بجعلنا الابن يعتقد يقينا بأن دراسة المعارف النظرية هي كل شيء في هذه الحياة وبأنها هي الوسيلة الوحيدة المشرفة للارتقاء الاجتماعي،فليس بالضرورة أن يُوَظف الفرد بدبلوم من الدولة حتى يكون محظوظا اجتماعيا، فكم من منقطع عن الدراسة حصل من النفوذ والنقود ما لم يحصله ذلك التلميذ المجتهد الثاقب الذكاء، و كم من مكرر في مستوى الباك لعدة مرات استطاع أن يشق لنفسه فيما بعد طريقا علميا ومهنيا أفضل مما تأتى لذلك التلميذ المتفوق السريع الخطوات …،نعم هي أقدار سجلها التاريخ ويسجلها، وينبغي للتلميذ أن يكون على علم بها وعلى وعي سليم بها، حتى يذهب إلى قاعة الامتحان وكله اطمئنان، يقدر على رؤية أسئلة الاختبارات ويتعامل معها بشكل علمي رصين بعيدا عن منطق ثنائية النجاح أو الخسران المبين إلى أبد الآبدين …
وهكذا فليس علينا في الأيام الأخيرة قبيل الامتحان إلا أن نغلب المشاعر الايجابية و ندعو بصمت لأبنائنا أو إخواننا الممتحنين، و نتجنب كل ما قد يوحي بأنهم ماثلون فعلا أمام المقولة الشهيرة: “يوم الامتحان يعز المرء أو يهان”، لنجعله يوما متميزا فقط لا يوم حياة أو موت، لنعتبره معركة واحدة لا كل الرهان، معركة واحدة فقط يمكن أن تكسب كما يمكن أن تخسر، ليبقى الرهان الحقيقي كل الرهان هو كسب الحرب ضد عقبات الحياة بسلاح العلم والعمل ومكارم الأخلاق.
إذن لنكن ما أمكن ايجابيين ولفرص النجاح موسعين، وليكن اليوم الأخير قبل الامتحان يوم سكون وهدوء تختمر فيه المعرفة وتفتح فيه نوافذ الأمل على الآفاق الرحبة البعيدة