لقد غدا بيت الله مكانا ترتفع فيه الأصوات باللغو واللغط والكلام الفارغ ...وتكثر فيه من الأفعال والأقوال ما لا يصح بمقامه ولا تعترف بقدره ..لقد جرده بعض المسلمون بجهلهم وتفريطهم من قدسيته وحرمته فأصبحوا لا يبالون بما يصدر عنهم في حضرته وبين جنباته الشريفة .. فقد تجد من لا يكلف نفسه عناء كتم صوت هاتفه فضلا عن إطفائه بل تجد من لا يتردد في الإجابة عنه إذ حدث ورن ..ومنهم من يجيب بصوت مرتفع ما يصِّد غضب المصلين ..ومنهم من يتحدث بين الصلوات مع أصدقاءه في أمور الدنيا ومنهم من يتشاغل بهاتفه ... وما إن تدخل بعض المساجد ممن لا تغلق أبوابها بين الصلوات حتى تجد من المستلقين على أرضه ما تندهش له عيناك وبالأخص في فصل الحر ..أما إن صادف ودخلت المسجد في شهر رمضان العظيم فقد يستوقفك استلقاء الناس على الحصير كأنهم جراد منتشر ..وقد يهولك منظرهم وهم على تلك الحال إذا رأيت حسبتهم خشُبٌ مسنَّدة إذ منهم من يغط في سبات عميق ومنهم من تسمع شخيره من بعيد.. ولوهلة يخيل إليك أنك داخل محطة للحافلات أو في ضفاف الشاطئ.. لقد أصبح بيت الله قبلة للاستلقاء وتحول إلى موضع للنوم والراحة ..وإلى مكان للقاء والمسامرة بين الأصدقاء وأرضية للتفاكر في مشاغل الدنيا.. فتجدهم مجموعات يجلسون في جنبات المسجد يخوضون في أحاديثهم الخاصة كأنهم جالسون وسط مقهى .. بل قد تجد من يعصي الله في بيته فيغتاب وينمم ويقهقه فما أقل حياءه ! ألم ينتبه هؤلاء لوصيّة النبيّ صلّى الله عليه وآله لأبي ذرّ الذي قال لرسول لله : كيف يعمرمساجد الله ؟ قال صلّى الله عليه وآله : " لا ترفع الأصوات فيها ، ولا يخاض فيها بالباطل ، ولا يشتري فيها ، ولا يباع ، واترك اللغو ما دمت فيها ، فإن لم تفعل فلا تلومنّ يوم القيامة إلّا نفسك ". وقد تجد من المشرفين على المسجد ممن طالت غفلتهم عن نظافته وعن تأتيثه فتساوت معهم نظافته واتساخه فما أكبر تفريطهم ! والعجب العجاب أن تدخل جامعا بحجم القرويين بفاس وتعلم أن له من مخازن الحبوس ما يسيل له لعاب أهل الدنيا ومع ذلك لا تلقى به مكيفات في فصل الحرّ هذا ..أحتى بيت الله أمسكتم خشية الإنفاق عليه وخزائنه ملئى ! .. بل حتى الصلاة التي يستريح بها الإنسان ويطرح فيها همومه.. غدا لا يأنس بها وانقطع عنه الخشوع والتبتّل فيها لانشغاله بفتن الدنيا وحل مكانه التهافت والتفلّت ..وما إن يفرغ من الصلاة بعد التسليم حتى يهم بالإنصراف مستعجلا بلا ذكر ولا تسبيح ..كأنه مستنفِرٌ فرَّ من قسورة فيخرج سراعا كأنه إلى نُصُبٍ يوفض.. هل ما عنده خير مما عند الله !! وما هذا الذي يغنيه عن ذكره أيفر من رحمته إلى رحمة الدنيا ..فما رحمة الدنيا إلا عذاب غُلّف بالفتنة وغرَّره الغرور فالتبس عليه فصار عليه يتهافت تهافت السِّكير على الخمر.. ومثل الذي يفرح بالدنيا ويطمئن بها ويسعى للاغتراف ما أمكن من ملذاتها ..كمثل الذي يتبع السراب يفني العمر كله وما يلحق به ..ووكمثل الذي اشتد به العطش فرآى ماء حتى إذا جاءه لم يجده ووجد الله عنده فوفاه حسابه ..قل ما عند الله خير وأبقى ..ورحمة ربك خير مما يجمعون .. أما يوم الجمعة فما أشد استغراب ما يحصل فيه ..ففي بيت يُوجِب الاستقبال للقبلة والتأهب للدعاء والتعبّد ..تجد فيه من يستند إلى سارية من ساريات المسجد خالدا للراحة والدعة وتجد جدران المسجد قد أحيطت بالمصلين المتكئين عليها كأنها أوشكت على الانهيار فدعّموها بحملهم ! وتجد من يمد رجليه كما يفعل في كنف منزله.. حتى إذا دنى منه أحد المصلين أو أراد تخطّيه ليجلس قبله أو عنده كفّ رجليه ! ولو وجدتهم من يفعل ذلك من العجزة ممن ضعف بدنهم لكان ذلك أهون ولاستصغتم الأمر ..ولو تقِفْتهم كذلك من أولئك الذين قصُر بهم المرض على الجلوس باستقامة لتقبلتم ذلك ولكن العجب أنك تجد من أغلب المتكئين ممن هم في عمر الشباب ممن لا يعوقهم عائق عن الجلوس بخشوع وأدب ! فعوض التسابق للصلاة في الصف الأول لحصد الفضل العظيم من الرحمان الرحيم ..ترى منهم من يتسابق على الاتكاء على أعمدة وجدران المسجد ..فما أغبن من انحسرت همته على السعي وراء الراحة حتى طال أسفه وقت الجزاء على قدر الفضل الذي فاته ... فحتى الوقت اليسير الذي يقضيه هذا العابد الكسول في المسجد تجده لا يقوى فيه عن الصبر على الطاعة وتجده لا يكلف نفسه عناء تجويدها.. فما أضعف إيمانه ! أما ما يحدث في المكان المخصص للنساء فشيء آخر ..فقد يطرق سمعك لغطهم وهمسهم وأنت في مصلاك .. ونظرا لضيق ذلك المكان المخصص لهن وصغر مساحته تنشب بعض النزاعات من حين إلى حين بين المصليات حول المواضع ومن يتقدم إليها ..فتعلو بذلك الأصوات ويحصل التنافر فيضعف بينهن الإخاء .. وقد تتضاعف نسبة المرتادات على المساجد في شهر رمضان وخصوصا في صلاة العشاء فيحدث أن تمتلأ حجرات النساء عن آخرها فيخرج بعضهن إلى حيز الرجال فيصير التجانس من فرط الزحام ..حتى لا تكاد تجد بين الجنسين برزخا .. والمرأة إن علمت بذلك اكتفت بالصلاة في بيتها فذلك أحب إليها فإن خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها كما قال سيد البشر عليه أفضل الصلوات والتسليمات .. وقد تجد من لا يرعوي أن يحضر أبنائه في كل حين ذهب فيه إلى المسجد خصوصا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ..ولو كانوا في سن التعقل لحُبّذ فعل ذلك ولكان مستحبا بل العجب أنك تجد من يحضرهم وهم لم يتجاوزوا الست السنين الأولى بعد ..فيشوشون على المصلين.. فما إن يشرع الخطيب في إلقاء خطبته ويعم الصمت أرجاء المسجد حتى تحس الصبية بالضجر فيأخذون باللعب ..ومنهم من يصرخ طالبا أباه بالخروج ..ومنهم من إذا قامت الصلاة تخلّل صفوف المصلين ذهابا وإيابا ..ألم يتلفت هؤلاء المسلمين لقول رسول الله :" جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشرائكم وبيعكم " .. وقد تجد من يرمي بحذائه أو خفه بباب المسجد ثم يهم بالدخول إليه كأنه داخل إلى حجرته ..حتى لتجد باب المسجد ملئت عن آخرها بالأحذية والسنادل.. فإذا نويتَ الدخول دهستها أو بعثرت أزواجها عن بعضها البعض.. وليس من مسجد إلا وبه مكانٌ لوضعِ الأحذية ولكن البعض يستحب الفوضى على النظام ..ويأبى الانضباط حتى في بيوت الله ! هل هان عليكم بيت الله لهذه الدرجة ..فانتهكتم حرمته ولم تبالوا بأقوالكم وأفعالكم وأحوالكم تحت سقفه ! ألم يبلغ علمكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة ، لأنّ الجنّة فيها رضى نفسي والجامع فيه رضى ربّي ". تيقضوا أيها المسلمون وفيقوا من غفلتهم قبل أن تطول حسرتكم يوم لا تنفع الحسرة .. واغتنموا وقت الفلاح في الطاعة ..وارفعوا من قدر بيوت الله يرفع الله من قدركم ..واتمروا بقوله العزيز: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ".."وما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ". وجنبوا أنفسكم اللغو واللغط ما دمتم في المسجد وابتعدوا عنه ما استطعتم خارجه فليس فيه إلا الهلاك.. واحرصوا على قراءة القرآن أو التسبيح أو التفكر في خلق السماوات والأرض وأنتم في بيت الله.. وعظموا شعائر الله "فمن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" .. ولا تؤثروا رضا أنفسكم على رضا ربكم ..فما أنفسكم إلا ما قدمتم لها ..وليس أبقى وأزكى لها من خير تسعى إليه نفسك هاهنا تحصد أجره وثوابه هناك ..وافقهوا عني ما أردت قوله وما يتذكر إلا أولو الألباب .