عاش الشارع الفرنسي للأسابيع الأخيرة على إيقاع أفلام "هيتشكوك " لسلسلة القتلى التي توالت بمدينة تولوز . بلغ دوي هذه الجرائم كل وسائل الإعلام من تلفاز و مذياع و متصف انترنيت إلا ووجدت اسم محمد ميرا – لان الفرنسيين لا ينطقون الحاء - موضوع ما أمامك . تم الإعلان عن هذا الاسم بعد أن عاشت تولوز تأهبا أمنيا كاملا بلغ المستوى الإقليمي و الجهوي إذ لم يكن من السهولة بما كان أن يتم المساس بعناصر أمنية ' فالقتلى هم جنود في الجيش الفرنسي - من أصول مغاربية - ناهيك عن الأطفال الأبرياء من الجالية اليهودية – حرموا من حقهم في الحياة - . وقد جاء هذا الإعلان في ظروف غامضة و بأكثر من علامة استفهام لدى المتتبعين ثم الظرفية التي تعيشها البلاد التي تؤطرها حماسة الحملة الانتخابية لرئاسة فرنسا للفترة الرئاسية المقبلة التي تتميز بصراع بين الرئيس الحالي "نيكولا ساركوزي " و المترشح عن الحزب الاشتراكي "فرانسوا هولند" ثم باقي المترشحين بأفكار و برامجَ مختلفة ... تحولت الأنظار إلى صاحب الدراجة النارية من نوع " سكوتر" بعد أن تراشقت وسائل الإعلام حجارة الاتهامات و التساؤلات للأجهزة الأمنية فضُغط عن هذه الأخيرة بشدة لتفصح عن هوية شاب من أصول جزائرية قد زار الباكستان في السنين الأخيرة لأكثر من مرة و كذلك علاقاته بتنظيمات " إرهابية " و سرعان ما تم نقل عملية المداهمة على قنوات الأخبار فعاش الحي الذي يسكنه محمد ميرا على إيقاع الرعب من جديد إذ قطع الكهرباء عمدا و أوتي بمتخصصين في مجال التفاوض الإجرامي فعاش الجميع أحداث فيلم حقيقي للمجرم و رجل الأمن ... إلى أن انتهت العملية بعد حوالي 36 ساعة بتدخل امني قوي انتهى بقتل الجاني ... على المستوى السياسي تم استغلال هذه الحادثة لتأجيج الشارع من جديد أمام قضية الهجرة بشكل عام ثم قضية الإسلام في فرنسا أو " المد الإسلامي " و سرعان ما تم تحويل الاتجاه نحو "أجندات " انتخابية و محاولة كل مترشح على حدة أن يستثمر ما وقع رغم مناداة أوساط إعلامية للنظر في خلل الجهاز الأمني الفرنسي – الاستخبارات – الذي كان على علم بالخطورة المحتملة للجاني خصوصا بعد إعلان الولاياتالمتحدةالأمريكية بأنه ضمن لوائح الأسماء التي تمنع من السفر على متن طائراتها ... حاول الرئيس الفرنسي الاعتدال بين القيام بواجبه كرئيس حالي للبلاد و كمرشح للانتخابات المقبلة فعلق حملته لأيام حتى تم رفع أحر تعابير التعازي لأسر الضحايا و تضميد جراحهم حتى نهاية التأبين و صعود الطائرة متجهة إلى إسرائيل التي حملت أيضا بعض رجالات الحكومة الفرنسية ... لم تجدي كثيرا محاولات المرشح اليميني ساركوزي و لا " مارين لوبان " التي ما تركت الأزمة تمر لتجديدها الكره الكامل للجاليات عموما ثم العربية و الإسلامية خصوصا و رفع شعار ما ورثته من أبيها "جون ماري لوبين " فرنسا للفرنسيين ' إذ سرعان ما اندثرت كل تلك الخطابات الرنانة و ذلك لكون الشارع الفرنسي فهم اللعبة جيدا و بات يفكر في أولويات المرحلة العصيبة التي تجتازها البلاد من أزمة اقتصادية و تطبيب و مشاكل عويصة أخرى تجعل الفرنسيين يضعون نقطة الأمن في الصف الخامس أو السادس لأولويات المرحلة - بحسب استطلاعات الرأي- . لكن ما ترسب عن هذه الأزمة هو انطلاق ظاهرة الترهيب من الإسلام من جديد أو ما يعرف ب " الإسلاموفوبيا" وذلك داخل ربط متناسق – لدى الكثيرين – بين الواقعة و أحوال الإسلام داخل البلاد و لفت النظر للظاهرة السلفية ... قدمت السلطات مجموعة من المعلومات عن انتماء فكري للسلفية ؟ لمحمد ميرا وسط تضارب للآراء و الأفكار حول دعم بعض التنظيمات للعملية لكن المعلومات تبقى محدودة لكون صاحب الفعل رحل إلى دار البقاء مع عدم الغفلة عن مساعدات لعناصر أخرى محتملة ' فالشريط الذي تلقاه مكتب قناة الجزيرة بباريس قد يوصل إلى عنصر متورط بالموضوع بعد الأخ الشقيق لميرا الذي مازال يتابع في القضية ... محمد ميرا كان قبل زمن قليل قابعا في قبو عمارات السيتي – تلك الأحياء الشعبية و الفقيرة التي تتميز بها ضواحي المدن الفرنسية – التي تخصص السكن الاجتماعي للجاليات ' يدخن الشيشة و نبات الشيرا و يتجرع النبيذ و يسرق و يبخس الناس أشياءهم ...صار اليوم مجاهدا تنتظره الحور العين في جنات النعيم ! إن هذه القضية و حيثياتها تستدعي وقفة تأمل و تحليل ' فان حضي التحقيق بكثير من الغموض و نقص في المعلومات يمكن أن يعزى إلى الحساسية و السرية التي يجب أن يحضى بها إذ لا يمكن أن يصرح بكل المعلومات وهو مما يوحي بحلقات ناقصة أو شبه مفقودة في القضية ككل . لكن السؤال الذي يطرح بإلحاح كيف تحول محمد ميرا من شاب ترعرع بمحيى الإجرام إلى رجل يجاهد – حسب اعتقاده – في سبيل الله ؟ تم ربط كل ما حدث بالحضور السلفي – المتنامي – بفرنسا ' و معلوم أن السلفية كتيار اعتقادي / فكري يجمع تحت لوائه مجموعة من الفرق قد تختلف رؤاها من زاوية لأخرى لكن تبقى كلها تحت شعار واحد : الانتماء أو الولاء للسلف الصالح –بحسب اعتقاد السلفيين- ' وبذلك نجد داخل هذا التيار: - من هم سلفيون بالمفهوم فقط: في شكل خاص من اللباس و قضايا العقيدة ... يريدون تطبيق شعائر الدين بالشكل الذي يرنونه مناسبا لأي زمان و مكان مع عدم الاختلاط بمن لا يتقاسم نفس الهندام و المظهر و الاعتقاد ... - من هم وهابيون: أتباع "محمد بن عبد الوهاب " الذين يعودون إلى العقيدة أولا و إلى العقيدة ثانيا و إلى العقيدة ثالثا ... ومحاربة كل أمر مستجد أو مستحدث باسم البدعة و التركيز على مفاهيم كالولاء و البراء ... ومجموعة فرق أو أشكال فكرية أخرى قد لا يسع المجال لذكرها ' لكن يبقى بأن كل تيار فكري / بشري هفوات أو تطرفات – و تلك ظاهرة عالمية - و هو ما يجعل تيار السلفية / الجهادية أو الدعوة و القتال أو التكفير ... كلها أشكال تتفرع من منبع واحد هو التأكيد على فكر قتالي تحت مسمى الجهاد. قد يستبيح قتل البريء أو المسالم أو الطفل أو العجوز ... و هو يشمل حتى من هو مسلم و يؤمن بنفس القران و النبي الذي بعثه الله لتبليغ رسالة الإسلام . والفرق السالفة الذكر تتميز بعمل شبه منظم داخل أوربا تحاول استقطاب الشباب عموما ومن كل الفئات الاجتماعية وحتى المثقفة لأنها تتوجه لمن من هم فارغي الفكر و لا يستطيعون نقاش أمور الدين – نظرا لمحدوديتهم المعرفية – فيتم الاستيلاء على عقولهم بأقوال الله و الرسول صلى الله عليه وسلم مما يسهل عمل غسيل دماغي يسهل بعده ادخار أفكار و معطيات موقوتة تتحول في الوقت المناسب إلى ما هو مطلوب... ومعلوم لكل من اختلط بالمساجد و بدهاليز العمل الدعوي في أوربا بأن هؤلاء لا يصطادون إلا في المياه البريئة وقد تم تحويل كل مجوداتهم إلى معتنقي الإسلام الجدد أو ممن ثابوا لله مؤخرا بعد سنين الخمر و الضياع ... وقد ترصد لهذه المهام أموال طائلة ' فمراح مثلا وجدت عنده أسلحة بقيمة تناهز 20000 أورو و هو لا يتوفر إلا على مساعدة اجتماعية -- RSA لا تتعدى 560 أورو شهريا لسد حاجيات الشهر من أكل و كراء و شرب ...
يبقى المد السلفي هذا الذي يربح يوما عن يوم كثيرا من العقول متماديا في زحفه نحو وسط جديد يتمثل في الوافدين الجدد على الإسلام و الذين لا يحضون برعاية من مسيري المساجد و لا بأدنى التأطير الذي يجب في جل الحالات ... خصوصا و أن هذه المساجد ما زالت تفتقر لأدنى الأنشطة الدينية أو الفكرية أو التعليمية نظرا لكون مسيريها من دوي التقاعد الإجباري أو الاختياري ' فالمسجد في أوربا ليس مكانا للصلاة فقط بل هو مرتع دفئ لكل المسلمين للعقيقة و الإكرام و إشهار الزواج ... وكلها أنشطة مرخص لها في إطار قانوني مؤطر بقانون الجمعيات. الوافدون الجدد في بحث مستمر عن أجواء أخوية و نفحات إيمانية يفتقدونها داخل مجتمعات أوربية جعلت من المادة أهم محرك للحياة مما أنتج مجتمعا لا يولي للعائلة و لا الصداقة و لا التعاون – و لا قيم أخرى – أية قيمة . فيصدمون بجفاء هؤلاء المتقاعدين – ليس كلهم – الذين ما زالت البداوة تسيطر عليهم و ما زال الجفاء يُنظر على جبينهم مع تداخل بعوامل أخرى كالمستوى الدراسي و التعليمي و اللغوي و التواصلي فيقع صدام حتمي بين هؤلاء الشيوخ الذين لم يفقهوا من شؤون التسيير إلا عمل "الكسكس" و الإكرام و التشبث بالكراسي و بين وافدين شباب تختلف عقلياتهم و نظرتهم للحياة بشكل عام'مما يُدخل الجميع في عقم فكري قاتل . فيأتي أولئك الذين تربصوا ' ولهم من المؤهلات ما يكفي لجلب انتباه هؤلاء إذ يخاطبونهم بلغتهم فيتم شحنهم ضد الشيوخ و الفكر الهرم فيذهب بهم رويدا رويدا إلى أرضيات أخرى ينفرد بها المؤطر المثالي بشقق أو منازل ... فيبدأ العمل ... فلو كان للمسجد – تسييرا و انخراطا – ما يؤهله للدور التأطيري المحتمل لهؤلاء الوافدين من إمكانيات بشرية تستطيع استيعاب حماسة هؤلاء و صناعة النموذج المسلم المندمج الذي يعيش و يتمتع بحق المواطنة بهذا البلد -الذي لم يفرق مثلا بين تطبيب المقيم الشرعي و غير الشرعي – مستجيبا للواجبات التي يفرضها القانون ' و إن لم تترك المساجد هذا الفراغ لما وُجد مكان لهؤلاء ' فكلا الجانبين يعيش تطرفا يناسبه . المسير مثلا يتبع حرفيا ما يمليه عليه انخراطه السياسي / الفكري – بإتباع جهة حزبية معينة – فيدخل في وفاء مطلق للجهة الوصية – كاتحاد جمعيات مسلمي فرنسا التي يسطر عليها الإخوان - دونما أي اهتمام للقواعد و المنخرطين و مطالبهم و احتياجاتهم ... أما على المستوى العالي فان تسييس المساجد قد ينسي واجب الدعوة و تمثيلية الإسلام التي تفرض على هذه الجمعيات الانخراط في النسيج الثقافي و الاجتماعي للمدينة أو الإقليم أو الجهة ... وقد ينسي الأولويات أيضا . ودخول هذه الجهات في حسابات معينة قصد جلب عطف السلطات يجعلها تتلاعب أحيانا ولو بتلك الصورة القاتمة التي يعطيها هذا الآخر الذي تتبرأ منه ومن فكره فتترك له المجال مفتوحا ...و تكون النتيجة ثقيلة على المسلمين عموما .
فنحن اليوم أمام محك حقيقي يطرح سؤال النوعية و الكيفية التي يتميز بها هذا التسيير ؟ بل و إعادة طرح الأولويات وعرض الأوضاع بشكل واضح يتوخى هيكلة جديدة يسمح فيها للعناصر التي تتمتع بالمعرفة و الكفاءة العمل لبيت الله و لصالح المسلمين عن طريق ضخ الدماء الشابة – العاقلة والرزينة – من أجل تجديد فكري / دعوي يُنفتح فيه على البلد المضيف و يرسي قواعدَ لتواصل مستمر لكون الجاليات جزءا من هذا البلد – رغم استمرار علاقتها ببلد الأصل – دون إغفال خبرة الشيوخ التي كانت خلاصة عمل السنين ' وكل ذلك لن يتأتى إلا بتلاقح بين الأجيال فما تعلمه خبرة الدنيا يفوق في أحيان كثيرة خبرة الحرف و رحلاته بين الكتب .
أما فيما يخص الدولة الفرنسية فلابد من نظرة جديدة ترى بعيون واقعية الخطأ الجسيم الذي أفرزته السياسات الماضية في التعامل مع المهاجرين على أنهم مواطني الدرجة الثالثة أو الرابعة – أو حتى غير المصنفة في بعض الأحيان – خصوصا فيما يخص الإسكان فتم الزج بهم بالضواحي فكان أن عزلوا في أحياء خاصة – من السكن الاجتماعي HLM – اليوم هي سبب أرق مستمر لرجال الأمن وبؤرة توترات مستمرة على المستويات الاجتماعية و الاقتصادية و الأمنية... ناهيك عن تلك الصورة غير المشرفة تماما لدولة كفرنسا و كذلك لجالياتها المثقفة التي تعاني من هذه " الكليشيات" التي لا تفارق أي اسم غير فرنسي وخصوصا العربي فتلاحقه حتى في مسيرة بحثه عن لقمة العيش ... فلابد من رؤى سيايسة جديدة تخرج من التعامل مع ملف الهجرة ككل بكونه عبئا أو بكون المهاجرين " سرطان " يهدد فرنسا إلى اعتبار هذه الجاليات كمكون مجتمعي فرنسي إذ نحن في الجيل الثالث أو الرابع الذي خرج عن القاعدة العمالية وأفرز اليوم الدكتور و الكاتب و المهندس و الطبيب و الخبير و المقاول...