" .. فبعد ما تم تقديمه كربيع عربي ، خلف خرابا و دمارا و مآسي إنسانية ، ها نحن اليوم نعيش خريفا كارثيا .. " ملك المغرب محمد السادس شكل الخطاب الذي ألقاه العاهل المغربي أمام القمة الخليجية المغربية مؤخرا حدثا نوعيا ، إذ ظل محط المعاينة و الاستقراء السياسيين من قبل المعنيين بالشأن الاستراتيجي الوطني و الإقليمي و الدولي ، بفضل ما تضمنه من إشارات و مواقف وطنية و قومية بالغة الوضوح و الأهمية . خاصة و أن انعقاد هذه القمة تزامن مع سياق دولي موسوم بالتوتر الحاد ، بين مجموعة من الأقطاب و الاصطفافات و المحاور الداعمة للاستقواء و الهيمنة ، من منظور سياسوي يروم بلورة المصالح الاستراتيجية الضيقة ، بعيدا عن الحد الأدنى من القيم و المبادئ الكونية المسطرة في المتون الدولية الرسمية ! كما أن القضية المغربية الأولى المتمثلة في الوحدة الترابية تمر عبر منعرجات غير آمنة ، جراء مؤامرات سافرة لخصوم المملكة المغربية الدائمين ، و ازدواجية خطاب بعض " أنصار " المملكة ، و المغامرة غير محسوبة العواقب للأمين العام للأمم المتحدة ، و تخليه عن الحياد المطلوب في هكذا أحداث دولية عصيبة . *** و قد استوقفتنا ، مثل عدد غير قليل من المتتبعين للقضايا السياسية الوطنية والعربية ، الصيغة الأسلوبية التي شكلت "نظرة " العاهل المغربي للربيع العربي ، إلى درجة أن بعض " المحللين " و المدونين الذين اشتهروا ب " الجرأة " في التعاطي مع راهن الأحداث السياسية ، استنتجوا و بجرة قلم أن ملك المغرب قد عبر أخيرا عن رأيه الصريح ؛ المستهجن و المعارض للحراك الشبابي العربي الذي انطلق منذ 2011 في معظم الدول العربية ، مطالبا بالديمقراطية و إسقاط الفساد و الاستبداد . و الواقع الذي لا مراء فيه أن الانتفاضات العربية الكبرى التي ملأت ساحات التحرير و التغيير العربية ، و شغلت الرأي العام الدولي قبل العربي ، إنما جاءت كجواب جماعي عن سؤال غياب مستلزمات العيش الكريم ، و الإحساس بالضيم و التهميش و الاضطهاد المادي و المعنوي .. و خاصة في ظل أنظمة عربية سياسية " جمهورية " ، تغنت طيلة عقود " الاستقلال " بأولوية العدالة الاجتماعية و الاشتراكية ، و محورية الصمود و التصدي و " مقاومة " العدو الإسرائيلي ، في مصر و سوريا و اليمن و ليبيا و الجزائر .. و رأينا بالصوت و الصورة عالية الجودة ، أن هذه الأنظمة " التقدمية " ، إنما كانت تتصدى لأحلام المواطن العربي في الحرية و الكرامة والعدالة والتعددية . *** أما الأنظمة العربية الملكية التي طالما نعتت بالمحافظة و الانبطاح و التبعية غير المشروطة للامبريالية .. فلم تسجل عليها أنها واجهت شعوبها بالبراميل المتفجرة ، و التقتيل و الدمار غير المسبوقين ، ليس لأنها تتبنى الاختيار الديمقراطي السليم ، بل لأنها أكثر ذكاء و مرونة و قربا من المواطنين ، و قد حصل ذلك في دول الخليج و الأردن و المملكة المغربية . و سواء كان الحراك العربي استجابة لمتطلبات الواقع العربي الجريح ، كما يرى صاحب هذه السطور ، أو كان " مؤامرة " خارجية خطط لها " ليلا " ، فالنتيجة واحدة ، و هي أن الشعوب العربية كانت مهيأة لتلبية نداء التغيير والإصلاح و الثورة ، في سياق انسداد الآفاق و انتفاء الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية ! *** و ما من شك في أن المملكة المغربية كانت الاستثناء العربي البارز، و هي تجترح نموذجها النوعي في التعاطي مع اهتزاز الساحة الوطنية ، و مطالب حركة 20 فبراير الشبابية المزلزلة ، فبمجرد أن انفجر الشارع المغربي مناديا بالتغيير الفعلي لآليات الفعل السياسي الوطني ، جاء جواب أصحاب القرار و دون تأخر ، ممثلا في خطاب العاهل المغربي 09 – 03 – 2011 التاريخي ، عقبته قرارات رفيعة ، من إنشاء مؤسسات حقوقية و تغيير الدستور وتنظيم الانتخابات التشريعية و تكوين حكومة سياسية يتزعمها الحزب الإسلامي المعتدل (العدالة و التنمية ) .. و بقية القصة معروفة . لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن المسار الديمقراطي المغربي خال من العراقيل و المعيقات الصادرة عن فلول و نزعات التحكم ، المنطلقة من رحم الدولة العميقة ، بيد أن الشعب المغربي يملك قدرا كبيرا من المناعة و الوعي و الصمود من أجل الحفاظ على مكتسبات البناء و الإصلاح في ظل الاستقرار . *** و بناء على ما سبق يمكن القول بكثير من الثقة ، أن ما نشاهده بألم و حسرة عميقين من مظاهر الخراب المبين الذي طال الجمهوريات العربية " العتيدة " ، ليس مرده حراك الربيع الديمقراطي ، الذي كان من المنتظر أن يزور " أوطاننا " إن عاجلا أو آجلا ، و إنما سببه الأساس هو رعونة الحكام الذين عاثوا في الأرض العربية فسادا و استبدادا ، أما الربيع المغربي فهو مصر على التوجه قدما نحو بلورة صرح ديمقراطي حديث ببطء و تؤدة ، و لن تقف في وجهه مناورات ذوي النزعات التحكمية و الانقلابية . إن النهج الديمقراطي المغربي ليس مجرد تكتيك ظرفي أ و " سحابة صيف لن تمطر " ، بقدر ما أنه قرار استراتيجي حر و مستقل ، من أجل بناء غد أفضل ، تسود فيه قيم الديمقراطية و المبادئ الكونية السامية ، في تناغم تام و حيوي ، مع القيم الوطنية الحضارية و الثقافية و الدينية المنفتحة .