من منا لم يعاين قصص اللاجئين السوريين في شتى بقاع العالم، بالمدن العربية والغربية، في الشوارع، وفي مخيمات اللجوء، مهجرين بلا وطن ولا مأوى، فلم يكن معظمهم يعلم ما يخبئه الربيع العربي من أهوال ومحن امتدت لستة أعوام. وإذا كانت المعاناة واحدة تكاد لا تميز بين شاب وشيخ، رجل أو امرأة، فإنها تصير أشد وطأة عندما يتعلق الأمر بالنساء، تلك القوى الناعمة التي لا تلبث أن تكابد قساوة الغربة وحرقة الفقد بدموع وعزائم شامخة. في المغرب كسائر الأقطار التي أضحت وجهات رئيسية للجوء، تتأرجح اللاجئات بخفة وصمود بين دورهن كأمهات وزوجات وشابات في ربيع العمر، يفاجئننا باسمات، وإن تململن من الشفقة والقبوع أحيانا، وهن يعملن ويطهين ويبعن ويكدحن ويرجين شفقة المارة لإعالة أسرهن، غير آبهات بالصعاب، ودون كلل ولا تأوه. فاديا، شابة في ربيعها الرابع والعشرين، إحدى اللاجئات اللائي رمت بهن رياح اللجوء إلى المغرب، ترددت قبل أن تخبرنا قصتها لكنها أرادت أن توصل صوت الفتاة اللاجئة إلى العالم كله، فبعد رحلة ألف ميل تقول إنها "انطلقت من مدينة إدلب السورية إلى لبنان عبر الحدود البرية، ثم مصر والجزائر قبل الوصول إلى المغرب". طوال رحلة الهروب من الموت إلى المجهول، تضيف فاديا التي بدت عاجزة عن مغالبة دموعها في بوح لوكالة المغرب العربي للأنباء، "واجهنا السحل والتنكيل وقاومنا الجوع أياما طوال، وبالرغم من أن مصير معظمنا كان مجهولا، إلا أن همنا الوحيد آنذاك تمثل في الهروب من الموت والاختطاف والاغتصاب وبطش العاصابات وقوات النظام، رحلة الهروب وإن كانت قاسية فقد تكلفتنا مبالغا ضخمة استنفذت كل مدخراتنا". الأفق مبهم تؤكد اللاجئة السورية، وواقع الحال يتراوح بين القسوة وضنك العيش، "أما الماضي فيجعل في القلب غصة أكابدها باستمرار، فبعد حصولي على شهادة الثانوية العامة سنة 2010 عجزت عن الالتحاق بالجامعة بعد تأزم الأوضاع الأمنية هناك، والصعوبة ذاتها في الجامعات المغربية بسبب إقامتنا بطريقة غير مشروعة"، وتابعت "أعيش رفقة والدتي وأخي الأصغر بعدما تركنا والدتي رفقة، نعاني الأمرين لكسب قوتنا اليومي، لكن لن نفقد الأمل يوما في استعادة ولو جزء يسير من تفاصيل حياتنا الكريمة"، وتضيف وهي عازمة على إخراج حلمها للواقع "سأظل في المغرب لأتم دراستي وسأنجح نعم سأنجح..". أم عبد الله" لاجئة سورية أخرى، بمجرد سؤالنا عن "عبد الله" حتى انهمرت عبرات بدت كجمرات تحرق خديها، هو فلذة كبدها الذي فارق الحياة إثر نزيف معوي حاد وضع حدا لحياته في غياب أدنى مستلزمات الرعاية الطبية بمستشفيات سوريا، "فلم يبق من ضناي الذي كان بدو يصير دكتور صيدلاني"، تقول السيدة أم عبد الله بحرقة "سوى اسم أحمله معي زادا وذكرى تلطف لمما من لوعة الحنين". وتعيش أم عبد الله رفقة طفليها ،شام وياسر ، في منزل ضواحي الرباط، تكلفها أجرته مع أسرتين أخريين، حوالي 2500 درهم في الشهر، تكلفة باهظة تؤكد السيدة في حديثها للوكالة، "بحكم عدم توفرنا عل دخل قار وصعوبة العثور على عمل بسبب إقامتنا غير المشروعة"، وتضيف "أضطر في الكثير من الأحيان إلى التسول لألبي حاجات طفلي ولأداء واجبات الإيجار وفواتير الماء والكهرباء، بعد أن فشلت كافة مساعي لإيجاد عمل بالمنازل والمحلات التجارية". وبألم يمتزج بفيض من الأمل، لم تخف أم عبد الله ذهولها مما آلت إليه "الشام الحبيبة" بتعبيرها، "فلم يخطر ببالي يوما، أن أهجر وطني الذي لطالما كان ملاذا آمنا للسوريين والأجانب، وأسلك دربا مضنيا وطويلا نحو المجهول"، وتضيف "كنا ميسوري الحال بسوريا كنت أقتات من معاش زوجي المتوفى ومن مشغل صغير للخياطة كنت أقيمه بمنزلي المؤلف من ثلاثة طوابق بحمص بالخالدية، لم أتصور يوما أني سأضطر إلى التسول، لكن الواقع بات على هذا الحال ولا أرغب في شيء اليوم سوى سد رمق صغيري وتأمين عودتهم إلى مقاعد الدراسة مهما كلفني ذلك". على ذات نهج المعاناة المحفوف بالأمل، تسير نهال التي هجرت سوريا ولم تتجاوز سن السابعة، نهال التي تتردد رفقة والديها على إحدى الجمعيات التي تأوي اللاجئين وطالبي اللجوء بالرباط، تقول في حديثها للوكالة، إن ذوي الغارات وصور الحرب والدمار الذي لحق بسوريا لا يزال حيا بذاكرتها، ولم تستطع بعد تكسير الحواجز النفسية التي خلقتها مشاهد الرعب والتنكيل والتهجير بذويها سواء بعد اندلاع الحرب السورية أو خلال مغامرة اللجوء من لبنان إلى المغرب"، في غسق من الليل أنهض مذعورة وأدخل في نوبة بكاء إلى أن أفقد صوابي". تسترسل الحديث ، وقد بدت كلماتها أكبر بكثير من سنواتها الإحدى عشر، "على الرغم من معاناتنا اليومية للظفر بلقمة العيش وتوفير أدنى شروط الحياة الكريمة، يحذوني أمل في أن أجعل من معاناتي وأسرتي شعلة أهتدي بها في قادم الأيام، كل ما نحتاجه هو مورد رزق قار نؤمن به حاجياتنا بالمغرب، أنا مستعدة للعمل رغم سني الصغير، ورغم خلمي بالعودة سريعا إلى مقاعد الدراسة، لا نملك خيارا سوى التشبث بخيط الأمل"، جازمة بأن "الواقع أفضل بكثير من ماض طفولة منكسرة ملطخة بصور الحرب والدمار". هؤلاء اللاجئات وإن ضاقت ببعضهن السبل وصدت في أوجههن الأبواب أحيانا، فإن كثيرات يحظين بفرصة للبوح، بمعية أطر تتكفل بتقديم الدعم الاجتماعي والنفسي لهن. النموذج من مؤسسة شرق – غرب المتواجدة بالرباط، والتي أضحت ملاذا للاجئين وطالبي اللجوء من مختلف الجنسيات، تقول هند بنميمون، إحدى المساعدات الاجتماعيات بالمؤسسة، حيث تتم دراسة ملفاتهم بعد المتابعة وجلسات الاستمتاع، قبل تحديد ما إذا كانوا بحاجة إلى دعم مالي أو لوجستي لإدماج أطفالهم بالمؤسسات التعليمية، أو دعم استعجالي في حالة المشاكل الصحية، أو دعم لخلق بعض المقاولات الصغرى. وعن اللاجئات اللواتي يقصدن المؤسسة، أضافت بنميمون في حديث للوكالة،"أننا نستقبل من ثلاثة إلى عشر حالات أيام الاثنين المخصصة لجلسات الاستماع، رغم أن السوريات بخلاف اللاجئات من إفريقيا جنوب الصحراء، يخشين في الغالب الإفصاح عن مشاكلهن، خاصة عندما يتعلق الأمر بحالات التحرش والعنف والاغتصاب، التي يتكفل الرجال بسرد تفاصيلها على المساعدات العاملات بالمؤسسة". وتستقبل المؤسسة، حسب المتحدثة، أسرا بأكملها في بعض الأحيان، خاصة تلك التي تبحث عن السكن والدعم الغذائي، "حيث نعمل على إدماجهم في دورات تكوينية في اللغات الفرنسية والانجليزية، وأخرى مهنية حسب الرغبة وحسب التخصصات المتوفرة كتصميم الأزياء والطبخ والصباغة حتى يتمكنوا من خلق مورد للعيش". ولفتت بنميمون أيضا إلى أن المؤسسة تعمل بتنسيق مع شركائها بمختلف مدن المغرب، لضمان استفادتهم قدر الإمكان من الخدمات الإنسانية التي تقدمها في مرحلة أولى، ولتسهيل اندماجهم في المجتمع من خلال تسوية الأوضاع القانونية والعمل والدراسة، مشيرة إلى أن خوف بعض اللاجئين، مع تزايد أعدادهم، أو نظرة المجتمع أحيانا تحول دون استفادتهم من دعم المؤسسة، "بل ونفقد التواصل مع بعض الحالات التي باشرت جلسات نفسية وجلسات استماع، والتي يعيش معظمها في ظروف إنسانية وصحية ونفسية صعبة". وبالرغم من كل المشاق التي تكبدها اللاجئون رجال ونساء طوال ست سنوات قضوها ضحايا للتهجير والترهيب والاستغلال، لم يتراجعوا ولم يطويهم الحنين، بل ربطوا على جراحاتهم وأكملوا المسار ليصيروا لآلئ مضيئة في زمن الحرب واللجوء.