قبل أن تتم دسترة توصيات هيئة المصالحة والإعلان عن مضامين الدستور الجديد، وقبل حراك الشارع المغربي وهبوب رياح التغيير التي اجتاحت المنطقة المغاربية والشرق الأوسط، كان المغرب قد دخل منذ سنوات مسلسل المصالحة وطي ماضي الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سنوات الجمر والرصاص، لكن توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة ظل أهمها المتعلق بالإصلاح المؤسساتي والتشريعي مؤجلا، قبل أن تبعث من تحت الأنقاض وتستعيد راهنيتها لتحل مساحات كبيرة في الوثيقة الدستورية الجديدة بين خطاب تاسع مارس من السنة المنصرمة وتاريخ تقديم تقرير الهيئة وتوصياتها، سنوات من الإنتظار لوضع آليات لتعزيز الضمانات الدستورية لحقوق الإنسان، وتبني وتنفيذ استراتيجية وطنية مندمجة لمكافحة الإفلات من العقاب، وكذا التسريع بتنفيذ إصلاحات في المجال الأمني والعدل والتشريع والسياسة الجنائية. وبعد الخطاب عادت توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة إلى الواجهة وتمت دسترها، وهي التي كادت أن تتحول إلى مجرد خطاب مناسباتي، وأن تختزل في جبر الضرر الفردي والجماعي. في خطاب تاسع مارس، استعادت التوصيات راهنيتها السياسية والحقوقية بعد ست سنوات من الانتظار، القيمة الاستراتيجية لذلك يكشف عنها الهدف من التوصيات كما ورد في التقرير الختامي للهيئة، إنه عدم تكرار ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبدسترة التوصيات سيتم دعم التأصيل الدستوري لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا وذلك عبر ترسيخ مبائ سمو القانون الدولي على القانون الوطني وقرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة. وهي الخلاصات التي صيغت في شكل توصيات تضمن الخطاب الملكي لتاسع مارس وبعدها مشروع الوثيقة الدستورية كثيرا من مضامينها. في نظر الهيئة فإن مسلسل المصالحة في بلادنا متنوع الأشكال والمجالات منذ بداية التسعينات، انصب على الاحتكام إلى قواعد المؤسسات الدستورية، وتوج بالتصويت الإيجابي للمعارضة على التعديلات الدستورية لسنة 1996، وتحملها للمسؤولية الحكومية، وحصول توافقات حول جملة من القوانين ذات الصلة بدولة المؤسسات وحقوق الإنسان. مضيفا أن البلاد عرفت تغييرات نوعية على صعيد الضمانات المؤسساتية ذات الصلة بتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، بدءا من إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وتطويره في نطاق مبادئ باريز، وإحداث المحاكم الإدارية، وإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وإحداث مؤسسة ديوان المظالم والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري. ومن أجل ضمان عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ببلادنا وتوطيد مسلسل الإصلاحات، قدمت الهيئة مجموعة من التوصيات تتعلق بالإصلاحات المؤسساتية وبإستراتيجية وطنية لمناهضة الإفلات من العقاب، ويأتي في مقدمتها دعم التأصيل الدستوري لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا وذلك عبر ترسيخ مبادئ سمو القانون الدولي على القانون الوطني وقرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة. كما أوصت الهيئة بتعزيز مبدأ فصل السلط وبمنع الدستور لكل تدخل من طرف السلطة التنفيذية في تنظيم وسير السلطة القضائية. كما أوصت بالتنصيص الدستوري الصريح بفحوى الحريات والحقوق الأساسية التي يتضمنها مثل حريات التنقل والتعبير والتظاهر والتنظيم النقابي والسياسي والتجمع والإضراب، وسرية المراسلات وحرمة المسكن واحترام الحياة الخاصة. وأوصت الهيئة أيضا بتقوية المراقبة الدستورية للقوانين والمراسيم التنظيمية المستقلة الصادرة عن الجهاز التنفيذي، مع التنصيص دستوريا على الحق في الدفع استثناء بلا دستورية قانون من القوانين، مع الإحالة على المجلس الدستوري للفصل فيه. وأوصت الهيئة بتحريم الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والإبادة والجرائم الأخرى ضد الإنسانية، والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المخلة بالكرامة أو المهينة، وكذا منع كل أشكال التمييز المحرمة دوليا وكل دعوة أو تحريض على العنصرية والكراهية والعنف. مع وضع إستراتيجية وطنية متكاملة، مندمجة ومتعددة الأطراف في هذا المجال وتعتبر أن مكافحة الإفلات من العقاب تتطلب، إضافة إلى الإصلاحات القضائية، وضع وتطبيق سياسات عمومية في قطاعات العدالة والأمن وحفظ النظام والتربية والتكوين المستمر بمشاركة فاعلة للمجتمع برمته، بالإستناد إلى قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان بملاءمة التشريع الجنائي والالتزامات الدولية للمغرب . و اعتبرت الهيئة أن توطيد دولة القانون يتطلب إصلاحات في مجالات الأمن والعدالة والتشريع والسياسة الجنائية. ولذلك أوصت في مجال الحكامة الأمنية بتأهيل وتوضيح ونشر الإطار القانوني والنصوص التنظيمية المتعلقة بصلاحيات وتنظيم مسلسل اتخاذ القرار الأمني وطرق التدخل أثناء العمليات وأنظمة المراقبة وتقييم عمل الأجهزة الاستخباراتية والسلطات الإدارية المكلفة بحفظ النظام أو تلك التي لها سلطة استعمال القوة العمومية. وأيضا تقوية استقلال القضاء، التي تتطلب فضلا عن التوصيات ذات الطابع الدستوري، مراجعة النظام الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء بواسطة قانون تنظيمي تراجع تشكيلته ووظيفته بما يضمن تمثيلية أطراف أخرى غير قضائية داخله، مع الإقرار باستقلاله الذاتي بشريا وماليا وتمكينه من سلطات واسعة في مجال تنظيم المهنة ووضع ضوابطها وأخلاقياتها وتقييم عمل القضاة وتأديبهم وتخويله إعداد تقرير سنوي عن سير العدالة. وإضافة لذلك، أوصت بإعادة تأهيل السياسة والتشريع الجنائيين التي تقتضي تقوية الضمانات القانونية والمسطرية ضد انتهاكات حقوق الإنسان وتفعيل توصيات الندوة الوطنية حول السياسة الجنائية المنعقدة بمكناس سنة 2004، وإدراج تعريف واضح ودقيق للعنف ضد النساء طبقا للمعايير الدولية في المجال، وتفعيل توصيات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الخاصة بالمؤسسات السجنية (توسيع اختصاصات قاضي تطبيق العقوبات واعتماد عقوبات بديلة...). واقترحت الهيئة تدعيم الضمانات الدستورية لحقوق الإنسان عبر إدماج مبادئ أولوية القانون الدولي لحقوق الإنسان على القانون الداخلي، واعتماد مبدأ البراءة والحق في محاكمة عادلة، وتدعيم مبدأ الفصل بين السلط، والمنع بمقتضى الدستور لأي تدخل للسلطة التنفيذية في تنظيم وعمل السلطة القضائية، كما أوصت بتضمين الدستور شروحات حول مضامين الحريات والحقوق الأساسية المتعلقة بحرية التنقل والتعبير وتنظيم المظاهرات وتأسيس الجمعيات والإضراب وغيرها، فضلا عن مبادئ من قبيل سرية المراسلات وعدم انتهاك حرمة المنازل واحترام الحياة الخاصة، كما أوصت بتعزيز مراقبة دستورية القوانين والقرارات الصادرة عن الجهازالتنفيذي. لكن وإلى حدود يوما الإعلان عن التعديل الدستوري الجديد، لم تتم تنفيذ جل توصيات الإنصاف والمصالحة رغم مرور سنوات على نشرها باستتثناء جبر الضرر الفردي والجماعي والكشف عن مصير حالات من المختفين مجهولي المصير وإن بقيت حالات أخرى عالقة ورفع المغرب تحفظاته على اتفاقيتين أمميتين وهما اتفاقية القضاء على التمييز ضد النساء والاتفاقية الأممية المتعلقة بالمعاقين، وبقي الجانب المتعلق بالاصلاحات المؤسساتية التي تتعلق أساسا بالقضاء والقانون الجنائي والحكامة الأمنية، ولذلك رفع رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الانسان مذكرة الى الملك تتعلق بإصلاح القضاء بشكل جذري، وقدم أيضا مقترحات مفصلة حول القانون الجنائي بغية تعديل بنوده، مع شروعه في إعداد مذكرة حول الحكامة الأمنية دون أن يتسنى رفعها للملك، ووضع المجلس نصب عينيه في مرحلة ثانية التركيز على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من خلال بلورة خطة عمل، إضافة إلى الاهتمام بالحقوق الثقافية والبيئية، إعداد دراسات تتعلق بالحق في الصحة والسكن اللائق والتعليم والشغل . توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة وزهمها المتعلقة بالإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي أجمع كل الدينقراطيين ضرورة تنفيذها، وحضيت بمصادقة الملك والتي أكدها في خطابين رسميين وأمر بتنفيذها،ولأنها وردت ضمن التقرير الختامي الذي هو بمثابة وثيقة رسمية بحكم القانون، لكن كان يجب الإنتظار إلى حين هبوب رياح التغيير في المنطقة المغاربة وإسقاط الأنظمة وخروج حركة 20 فبراير للشارع، آنذاك لم وجدت طريقها للوجود وملزت حيزا هاما من خطاب تاسع مارس واحتلت مكانة مهمة في الدستور الجديد بعد سنوات من الإهمال.