قرية الأطفال دار بوعزة من بين قرى أخرى وجدت لإيواء الأطفال المتخلى عنهم ومساعدتهم على تكوين أنفسهم بغية الإندماج في المجتمع، تعتمد على مساعدات مجموعة من العرابين والراعين كان آخرهم جاد المالح، الذي قام مؤخرا بزيارتها، التقى أطفالها الذين قدموا بعضا من سكيتشاته، فكانت زيارة مثيرة بأحاسيسها ومشاعرها، جعلته يقرر أن يطلق حملة من أجل جمع التبرعات كي ينعم الأطفال بحياة أسرية طبيعية قدر الإمكان. بمجرد دخول «قرية الأطفال» تختلط المشاعر الممزوجة بالأحاسيس وتظن أن من يعيش هنا تربط بينهم أواصر القرابة، وأن من تعتني بهم حقا أمهاتهم، فغالبيتهن يتحدثن عن الأطفال كأنهن فلذات أكبادهن «رباو عليهم الكبدة» كما أسرت لنا بذلك جل الأمهات، فكثير من الأطفال حلوا بالقرية وهم «لحيمة» كما هو الشأن بالنسبة لصفاء، أسامة، محمد .... مجرد رضع لا تتجاوز أعمارهم الشهر، التحقوا بالقرية لتفتح لهم أحضان أمهات، منحوهم الحب والحنان بسخاء، جعلوهم أبناءهن رغم أنهم لم يكونوا من صلبهن . أطفال تجرعوا طعم المرارة، وهو لا زالوا صغارا، تخلى عنهم الأب والأم.. فكان مصيرهم الشارع، ترعرعوا بعيدا عن محيط الأسرة، افتقدوا حضن وحنان الأم، لم يتذوقوا لبن ثدييها ولا استمتعوا بقبلاتها ولا بدفئها، لكنهم كانوا دائما يحلمون بغد أفضل وبلقمة عيش كريمة وملابس جديدة وحضن أسري، لكنه شعور ظل غريبا عنهم لم يلامسوه، فغالبيتهم عاش جزءا من طفولته في الشارع إما مشردا أو مهملا ومنهم من فتح عينيه عن الدنيا فوجد نفسه متخلى عنه إما بالمستشفى أو الشارع، كلما لمحوا طفلا بين أحضان والديه إلا وارتسم الحزن وتولد لديهم الحنين إلى الحضن الأسري، قليل منهم ابتسم له الحظ فعاش بين أسوارالخيريات ومع ذلك افتقدوا الإحساس بالدفء العائلي، كلما خلوا بأنفسهم إلا وتملكهم الحزن الممزوج بالخوف من المستقبل... من هنا جاءت فكرة «قرى الأطفال» و«الأمهات البديلات» لتمسح دموع الأطفال المتخلى عنهم وتعوضهم عن حضن الأم، هن حوالي 11 آنسة وهبن حياتهم لأطفال لا ذنب لهم سوى أن آباءهم تخلوا عنهم لأسباب عديدة..... فصرن مثل أمهاتهم عملا بالمثل القائل «الأم اللي كتربي ماشي اللي كتولد» استطعن بحنانهن وعطفهن أن يمنحن الأطفال حنان الأم المفقود . « قرية الأطفال» في دار بوعزة «قرية الأطفال» بدار بوعزة تبعد عن العاصمة الاقتصادية ببضع كيلومترات، تضم حوالي 103 أطفال يعيشون في دور رفقة إخوة وأخوات وأم بديلة، تقيم معهم بصفة دائمة وفي حالة غيابها تعوضها الخالة، يعيشون في جو عائلي دون أن يحس الطفل على أنه غريب، فلكل أم نحو تسعة إلى عشرة أطفال من مختلف الأعمار تسهر على تربيتهم والعناية بمتطلباتهم. «هدفنا مساعدة الأطفال المتخلى عنهم ومساعدتهم على الإندماج في المجتمع» هكذا تحدث مصطفى الياقوتي مدير قرية دار بوعزة عن الدور التي تقوم به المؤسسة لصالح الأطفال، وهو يرافقنا في جولتنا لمختلف مرافق المؤسسة الخيرية ليضيف بثقة عالية «فالأطفال يتلقون تربية وتكوين في وسط أسري ملئ بالدفء، يتم تأطيرهم من طرف فريق متخصص يضم مساعدة اجتماعية، وطبيب نفسي وأطر متخصصة في التنشيط والرسم حيث يتلقون كل الاهتمام الذي يحتاجون إليه من أجل نموهم وعيشهم في سعادة. أمام بناية «المعامل التربوية» كان حديثنا عن الهدف من الأنشطة الموازية، فالمؤسسة حسب الياقوتي تقوم على مبدأ توفير جميع الظروف الاجتماعية للأطفال النزلاء من أجل تمكينهم من العيش مثل بقية الأطفال، من اختيار أم أو خالة تسهر على تربيتهم في بيت يضم كل متطلبات الحياة العادية داخل قرية مصغرة. التي تعد واحدة من بين خمس قرى توجد في كل من أكادير، الجديدة، الحسيمة، آيت ورير وإيمزورن، مهمتها الاعتناء بالأطفال حتى يصبحوا قادرين على الاعتماد على أنفسهم. المعامل التربوية تضم بالإضافة إلى قاعة للرسم، وأخرى للأعمال اليدوية والرسم، حيث جلس المنشط رفقة عدد من الأطفال في تهييء بطاقات التهنئة بحلول السنة الجديدة لعدد من عرابي الأطفال سواء الأجانب والمحليين، فيما غيثة، شكيب ... اتخذوا أماكنهم في قاعة الموسيقي وبدؤوا العزف بحماس وهم يرددون الأغاني الفرنسية، ليشكلوا رفقة أطفال آخرين فرق موسيقية متنوعة تمثل القرية في مختلف التظاهرات التي تشهدها المؤسسات التربوية. البناية تحتوي أيضا على قاعة للإعلاميات ومكتبة تستغل كقاعة لدعم الأطفال المتعثرين مدرسيا. شكيب البالغ من العمر 14 سنة، بدت على وجهه علامة الفرحة والسرور، وهو يتحدث عن مقامه بالمؤسسة، كل ما يتذكره أنه حل بالمؤسسة وعمره ست سنوات لم يشعر بالدفء العائلي إلا وهو داخل القرية رفقة إخوته وأمه البديلة التي يعتبرها الأم الحقيقية «أنا ما كنعرفش شي حد آخر إلا خوتي وماما هنا» نطقها بكل عفوية، لقد نجح رغم العقبات والعراقيل من متابعة الدراسة على أمل أن ينهيها ليحقق ذاته، أحب الموسيقى وأتمنى أن أستمر في ممارستها أثناء أوقات فراغي. فيما عدد من الأطفال اتخذوا من ساحة القرية مجالا للعب والجري ... استمرت الجولة الاستكشافية للقرية ببيوتها الأحد عشر، التي يقطن بها النزلاء رفقة أمهاتهم وخالاتهم ولمختلف مرافق وفضاءات الترفيه، وللفضاءات المخصصة لتقديم مختلف العروض الفنية، الرياضية والثقافية. أمهات بديلات بإحدى البيوت كانت حكيمة، تقف بالمطبخ تهيئ الأكلة المغربية «الكسكس» التي كما تقول يعشقها الأطفال، التي تعدها كل يوم أحد بدل الجمعة، ماهي إلا لحظات حتى تحلق الأطفال حول المائدة، التي زينت بأطباق من الحلوى والفواكه الجافة وصينية شاي منعنع على الطريقة المغربية. «اخترت أن أكون مربية بهذه القرية لأنني أحب الأطفال كثيرا» تقول حكيمة التي استرسلت في حديثها حول دواعي وأسباب هذا الاختيار الذي تقول عنه «أنا كنبغي الأطفال هذاك الشي علاش اختارت نكون الأم ديالهم، فهي كأي أم عادية تسهر على تربية وخدمة أطفالها على الوجه الأكمل، تستيقظ على الساعة السادسة صباح فتقوم بإيقاظ الأطفال ليتناولوا إفطارهم، ثم تهيئ وجبة الغداء لاثنين من أطفالها يدرسون بمؤسسة خصوصية بعين الذئاب، فهي تسهر على تنظيم الأمور داخل البيت من ملبس وأكل وتحصيل دراسي ... بداخل بيت حكيمة، توجد غرفة جلوس وثلاث غرف نوم ومطبخ وحمام وحديقة مبستنة بعناية. أثاث وتجهيزات اختيرت ورتبت بعناية تعكس الذوق الرفيع الذي تتمتع به الأم حكيمة، فهو بيت حقيقي لحياة أسرة طبيعية. حكيمة «الأم البديلة» لعشر أطفال بينهم إخوة أشقاء استمرت في عملية التذكر، قبل مجيئها إلى القرية كانت تعمل كمدرسة بروض للأطفال ب «المدينة القديمة» وبانتقال الأب للعمل بدار بوعزة تركت التدريس، لتنطلق في رحلة البحث عن عمل جديد، انتهت بقبولها كخالة تعوض الأم البديلة من بين 80 مرشحة لهذا المنصب. توقفت لحظات لترشف الشاي ثم تواصل الحكي عن تجربتها داخل القرية. هما بحالهم بحال الدراري الآخرين أنا كنعطيهم الحب والحنان بحال أي أم» ما إن أخذت قرارها في الالتحاق بالقرية كأم بديلة وهي تحاول أن تكون أمهم الحقيقية، فما أن رأت وجوههم البريئة المتعطشة للدفء وعاشرتهم حتى بدأت تحس بغريزة الأمومة تجاههم بالرغم من أنها لم تجربها من قبل، فإن حدث لأحد منهم مكروه أو مرض أحدهم غادر النوم جفونها واستوطن الحزن قلبها. طوال المدة التي تكلفت برعاية الأطفال وهي تحاول منحهم الحنان لتعوضهم حرمان الأم الذي افتقدوه، في محاولة لمنحهم الدفء الأسري. فتعلق الأطفال الشديد بها جعلها تعيش إحساس الأم الحقيقية، لم تبخل يوما عليهم بعاطفتها وحنانها، في محاولة منها أن تجعل منهم أطفالا كباقي الأطفال قادرين على الإندماج في المحيط الخارجي من خلال القيام برحلات وزيارات خارج القرية. رسالة نبيلة فاطمة بعد مسار دراسي توقف في السنة الثانية من الجامعة وبعد حصولها على دبلوم في السكرتارية، عملت هي الأخرى في سلك التدريس بمسقط رأسها مدينة خريبكة، فهي كغيرها من أبناء المدينة لم تسمع قط بقرى الأطفال ولم تتعود على العمل التطوعي كما تقول. كان حديث صديقتها عن قرى الأطفال ما أثار انتباهها، لتترك كل شيء وراء ظهرها وتلبي نداء الأمومة، واليوم أنا أم لتسعة أطفال أعاملهم مثل أم حقيقية وأعيش معهم في بيت واحد، تنتظر بزوغ الغذ لتضم بين أحضانها الرضيعة بشرى التي مازالت لم يمر على ولادتها إلا أيام قليلة، بفرحة عارمة تتحدث عن المولود الجديد «أنا بحال أي مرا نافسة وجدت كلشي للصغيورة باش ما تحتاج حتي حاجة» لتضيف بعدما أرسلت ضحكة طويلة عبرت من خلالها عن حبها العميق لأبناءها، فلكما رددوا كلمة «ماما» تشعر بالسعادة. فصفاء التي أشارت إليها بأصبعها، أشعر أنها ابنتي التي أنجبتها فقد سهرت على تربيتها منذ أن كانت صغيرة وكذلك الشأن بالنسبة لفاطمة الزهراء التي ما أن تذكرها، حتي بدأت الدموع تتدافع دون أن تتمكن من إيقافها «تواحشت بزاف فاطمة الزهراء دابا راه مشات لدار الطالب في سيدي عثمان حيث كتقرا في الثانوية واخا كتجي مرا مرا ولكن ماشي بحال ملي كانت عايشة معاي» مازالت تتذكر اليوم الذي أتت فيه الصغيرة إلى القرية، شعرت خلالها بحنان يجذبها إليها فقامت برعايتها ووفرت لها الظروف لتشعر بأنها والدتها، كل ما أتمناه هو أن أؤدي رسالتي النبيلة على الوجه الأكمل وأن يصل أبنائي إلى ما يطمحون إليه. خديجة كباقي الأمهات البديلات لم يسبق لها الزواج، اختارت أن تهب وقتها لهؤلاء الأطفال الذين شعرت أنهم بحاجة إلى الحنان. تركت أسرتها واختصرت المسافات ليصبح لها أبناء.. صحيح أنهم ليسوا من صلبها لكنها تشعر أنهم مثل أبنائها، استطاعت كما تقول والحمد لله أن تجعلهم يعيشون في جو أسري، تحاول أن ترسخ لديهم مجموعة من المبادئ والقيم المغربية، لا تطلب شيئا من الدنيا سوى أن ترى أبناءها في أحسن الأحوال وأن يصبحوا رجالا ونساءا تفخر بهم في المستقل. فهي كغيرها من الأمهات البديلات لا يشعرن بأنهن يمتهن وظيفة يتقاضين عليها مبلغا ماديا، بل يقمن بعمل ورسالة نبيلة، فقد وهبن أنفسهن لرعاية الأطفال وحل المشاكل التي تواجههم سواء النفسية، الاجتماعية، فهن على استعداد لبذل المزيد لتوفير وضع طبيعي وأسري لأطفال متخلى عنهم أصبحوا بالفعل فلذات كبدهن.