لا أنكر أني كثيراً ما شبهتك بباربي، هذه اللعبة على شكل المرأة اللعوب التي كنت أكرهها لأنها ربما كانت تفوقني غنجاً، بخصلات شعرها الذهبي الاصطناعي، وثيابها الاستعراضية، التي كانت تشبه سلطانة من سلاطين الزمان، وضحكتها المغرية. هذه الضحكة، كنت أتخيل فيها قهقهاتك العالية التي في أوقات كثيرة جعلتني أشعر بالاستفزاز من امرأة تأخذ الحياة ببساطة ظننتها "مبتذلة أحياناً"، وعلى محمل المزاح دائماً. تتمايلين على خشبة المسرح مثل فراشة، تصفقين بيديك للشباب الملفتين حولك، وتغني "زقفة زقفة يا شباب"، كنت أمقت تلك الحركة، عندما تحركين سبابتيك ليمنى واليسرى، وكأنك تمدين حبلاً يتعلق فيه الكثير من الرجال الذين تسحريهم، وتشديهم إليك، وهم مخدرون يقعون سريعاً في السحر، بانتظار إشارة من سبابتك. في طفولتي، جعلتك سبباً لأكره جهاز تلفزيون "سوني" العتيق بصورته البيضاء والسوداء الذي اتخذ مكاناً مميزاً في صالون البيت. أما "تلفزيون لبنان" هذا الديناصور التاريخي، الذي كان وحده محتلاً جميع القنوات في بيتنا بسب عدم وجود قنوات أخرى في ذلك الوقت، فكنت السبب بأن أراه أيضاَ، قاتلاً لرغباتي الطفولية.. تطلين في أمسياتي، تفرضين نفسك، على مخيلتي البريئة التي أرادت حينها أن ترى برامج كرتونية مثل "أليس في بلاد العجائب" أو "طم طم." تفرضين عليّ وجودك، تخرجين من الشاشة الصغيرة، وتغنين "أيام اللولو شو هللولو..شو رشو ملبس يا ماما وشو زينولو." كان حينها يأتي وقت مشاهدة أمي للتلفاز، ما يعني حلول الوقت الأصعب في اليوم، أي اضطراري إلى النوم رغما عن إرادتي. أذكر أن أمي في تلك الفترة صبغت شعرها أشقر، تيمناً بك، لا شك أنها كانت تحبك كثيراً. وربما كنت أمقتك أكثر لذلك، لم يكن يعجبني أن تكوني مثالاً لتحرر نساء كثيرات من بينهن أمي، كنت أخاف عليها منك، لم أردها أن تكون "لعوبة" و"غندورة." كان الصباح في المنزل لفيروز، والليل للصبوحة. كنت أظن أن الحياة أعمق من أغانيك، ومن حركاتك، ومن غنجك على المسرح، لم أجد بيننا أي قواسم مشتركة. كنت قد اتخذت قراري بأن أتبنى فلسفة شمولية، وجدية مطلقة، طغت أيضاً على الكثير من الفتيات في ذلك الوقت، سأكون كل ما تشبهه الأنثى بعيداً عنك، أنثى رسمتها في مخيلتي، جدية مثل راهبات الدير، لا أعير انتباهاً إلى كل ملذات الحياة. في المرحلة الثانوية في المدرسة، وكنت حينها في السادسة عشر من عمري، أردت المشاركة في رقصة "دبكة" نهاية العام الدراسي، اختارت الناظرة "مس صليبا" والتي كنت أرتعش خوفاً ما أن تصرخ باسم عائلتي "يا عُمري،" للمفاجأة، أغنيتك "تعلى وتتعمر يا دار." اكتشفت لاحقاً جانباً آخر من شخصية "مس صليبا" وخصوصاً أنها كانت ترقص في فرقتك في أيام الشباب. "مس صليبا" تحب صباح، هي ليست كما كنت أظنها ثلاثة أرباع رجل، وربع امرأة، هي امرأة بكل ما للمعنى، ومغطاة ببعض من قساوة رجل. رأيت "مس صليبا" لأول مرة بعينين مختلفتين، يديها على خصرها تتناغمان مع هزة كتفيها يمنة ويسرة، فيما رجليها تتراقصان برشاقة. أحببت الأنثى التي اكتشفتها في معلمتي. وللصدفة بدأ اشمئزازي منك يتحول إلى إعجاب ما. بدأت ترافقيني في رحلاتي المدرسية إلى البقاع والشمال اللبنانيين، يسير الباص الكبير على وقع أغنياتك، أقرر الجلوس في الخلف مع الصبيان في صفي، وأصفق بيدي على وقع أغنيتك "جيب المجوز يا عبود." كبرت ودخلت الجامعة، وبدأت أحب السماع إلى أغنيك في سيارة السرفيس وأنت تغنين في الصباح الباكر "آلو آلو بيروت من فضلك يا عيني اعطيني بيروت عجل عل الخط شويي." لوهلة، اكتشفت أنك تضيفين تمرداً ما على شخصيتي وقد يكون أقرب إلى نسف كل ما رسمته في مخيلتي لصورة الأنثى التي التصقت بها لأني كنت أعتقد أنها ملجأي الوحيد في مجتمع لا يتقبل إلا من يشبهه. ليست الأنوثة في أن نكبت مشاعرنا، وأن ننعزل عن الشعور بالفرح. الأنوثة تعني أيضا السعادة، ليست أنوثة أن ندفن جسدنا، ونعيش داخل قوقعة من التقاليد. الأنوثة، تقتضي أن نحب جسدنا ونقرر أن نطير به إلى الأعالي. لم تكوني سطحية شحرورتي، كنت تحبين الحياة، تأخذينها ببساطة جميلة مثل أغنيك "عل البساطة البساطة، يا عيني عل البساطة أديش مستحليي عيش جنبك يا أبو الدراويش، تغديني جبنة وزيتونة وتعشيني بطاطا." عندما قررت أن أطلق جناحي للحب ولا أخاف منه، كانت أغنيتك "أنا هنا يا بن الحلال لا عايزة جاه ولا كتر مال" تعكس شخصيتي وشخصيات فتيات كثيرات لم يردن العريس لماله، أردن "عش يملأنه حبا وهناء" كما قلت تماماً. وعندما أصبحت أكثر نضوجاً، رافقتني أغنيتك "ساعات ساعات" لأنها تعكس الشخصية الإنسانية بتناقضاتها ومزاجها وتقلباتها، وبعدها عندما أصبحت أماً صرت أستمع إلى أغنية "حبيبة أمها." لم تكن أغنياتك فوقية كما ظننت في أيام مراهقتي الأولى، كانت لأشخاص كثيرين مثلي ما زالوا يتعلمون كيف يحبون الحياة ببساطتها. كانت أغنياتك تعبر عن فرح ما، عن عنفوان وتمرد، وعن عدم الخوف من الاختلاف، عن ثورة على التقاليد. أنت حقيقية.. أكثر من نساء كثيرات تعرفت إليهن. صادقة، وشفافة، لا تخافين من أن يحكم عليك بالمرأة العجوز التي تسحر الشباب. في لحظة ما عندما أخاف من أن أشيخ في العمر، وأصبح في الخمسين مثلاً، أتذكر دائما أن جمالك بدأ يبرز في ذلك الوقت. أنظر إلى خصلات الشيب التي بدأت تغزو رأسي، ولكن بمجرد أن أفكر فيكي يا "صبوحة،" أتذكر أن المرأة، بوسعها دائماً أن تكون جميلة، مثل الصبوحة تماماً وسأغني عالياً "يا دلع يا دلع.. تدلع." بقلم: دارين العمري