وأضحك من هذا الهراء.. من الخطاب الذي يريد أن يفهمنا بأننا لا نفهم شيئا، وأنهم وحدهم من يخبرون الأسرار، ووحدهم من يعرف مكونات الحكم وتوابله الخافية، ووحدهم من يحملون هَمّ النضال وهَمّ مستقبل الأجيال، وهُم فقط من يدركون الحلول السحرية الشاملة، ووحدهم القادرون عليها، ووحدهم الوطنيون الذي يملكون صك الوطنية، ووحدهم من يملكون أختام النضال، ووحدهم الشجعان المهابون الذين لا ينحنون، ووحدهم من يركب الخيول الأصيلة وغيرهم يركب أحصنة الخشب، أقلامهم شعلة من لهب، ضمائرهم من معدن الذهب، نقدهم هو النقد، والباقي خربشات، صوتهم هو الصوت، وصوت الباقين موات ، ويريدون أن يحشروا في أذهاننا كرها وجبرا أننا نعيش تحت حكم ملالي طهران وسيوف هولاكو مسلطة على رؤوسنا، وغدا يوم تنفيذ عقوبات الإعدام. في خطاب الإسلاميين الذين يحترفون المعارضة ومن ينضم إليهم، كثير من الانحرافات المقصودة، وعدم الاكتراث في استعمال الألفاظ القدحية والتبخيسية التي يراد بها الاستعداء والتحريض الذي يبلغ حد الرغبة في التثوير أكثر من كونها تعبيرات نضالية و إصلاحية. وهم إذ ينطلقون من مرجعية إسلامية ترى في الديموقراطية جبتا وطاغوتا بتعبير الأيديولوجيا التي دمغت الأنظمة السياسية الوضعية بوسم الكفر والجراءة على الإرادة اللاهوتية، وتصوُّرها الذهني للحكم يقوم على نظرية الخلافة العظمى التي يمثلها حاكم مطلق يتمتع بتفويض إلاهي، يطبق الشريعة دون اعتبار لاختلاف السياقات الزمنية والتاريخية، ويعمل بعد توحيد الأقطار المسلمة والقضاء على الدولة الوطنية، على استئناف حركة الجهاد باعتبارها أسمى غايات الدولة الإسلامية وأقدس مهماتها الحضارية. ومن هنا فهم يلجأون إلى المفاهيم والآليات التواصلية الديموقراطية بوازع براغماتي لإسقاط الدولة الوطنية بغض النظر عن ما بلغته من مثالية في الممارسة الديموقراطية وما أجرته من إصلاحات. و يتيح لهم هذا النوع من الإيهام والانتهازية البروز في المجتمع كأفراد ديموقراطيين وهيئات إنسانوية نضالية النزعة، مدنية الطرح، وحاملة لمشروع ديموقراطي بمثالياته الغربية وقيمه الكونية. ويسدلون (ولا مناص لهم من ذلك) ستاراً سجيفاً على مشاريعهم الكبرى المؤجلة التي لا يُبشّرون بها في المجتمع إلا على مستوى الطبقات الدنيا الأقل وعيا وانفتاحا على العالم الخارجي، و التي لا تقرأ إنتاجهم النقدي في مقالات الصحف اليومية وما يمارسونه حزبيا وسياسيا من أنشطة حداثية متعارضة مع دعائم الدوغمائيات التي يلقنونها حصيصهم في بؤر الدعوة. هناك فصل معرفي وطبقي يمنع من تلاقي خطابهم الأعلى مع الأدنى، يحرصون على صيانته، يتيح لهم اللعب على الحبلين ويجنبهم الوقوع في صدام مباشر مفضوح مع قواعدهم، وما حدث مع ماء العينين كان استثناء نادرا، حيث وقفوا عراة أمام قواعدهم، رغم أن وجودهم في صميم النظام النيابي الوضعي بحد ذاته يعد خلعا لحجاب الحاكمية ورقصا أمام طواحين الديموقراطية. لكن العامة عادة يسهل عليها تمييز الازدواجية على مستوى الرموز السطحية الواضحة، مثل خلع الحجاب أو ممارسات أخرى لا تقبلها الأرثوذكسية الأخلاقية، لكنها لا تستطيع تلمّح عدم الانسجام بين طبيعة العمل في مؤسسات الدولة الديموقراطية ومبادئ نظرية الحاكمية التي تتعارض جملة وتفصيلا مع مؤسسات الحكم المدني. وحتى ندرك الفرق بين نظام الحكم المرن والمعتدل في المغرب -الذي يتيح حياة سياسية تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية في التسيير وتدبير الشأن العام، وحيوية حزبية مبنية على التنافس، ومساحة واسعة من الليبرالية وحرية التعبير، سواء في الصحافة الرسمية أو الموازية، الورقية أو الالكترونية -وبين طبيعة الاستبداد الذي يشيرون إليه في مرافعاتهم الحقوقية، ومجازفاتهم المجحفة، ينبغي لنا أن نتبين بعضا من خصائص الأنظمة الاستبدادية الجوهرية، الكلمة الدائرة على لسان القوم. في السنوات الأخيرة شهدت الأوساط السياسية والأكاديمية إحياء واهتماما عالميا لإرث القاضي والمنظر النازي كارل شميت Carl Schmitt ، الذي توفي عام 1985. طائفة تجمع خليطا من علماء القانون الصينين، وقوميين روسا وأمريكيين، وألمان من اليمين المتطرف، وإنجليز وفرنسيين من اليسار الراديكالي، كلهم وجدوا ضالتهم في أعمال المفكر النازي الذي كان درة تاج المنظومة القضائية للرايخ الثالث. لماذا شميت؟ لأنه أحد ألذ أعداء الليبرالية في القرن العشرين، شميت كان مناهضا للنظام البرلماني ولمنظومة حقوق الانسان الدولية، وكان يرى أن التمييز بين العدو والصديق أمر جوهري في السياسات، معتبرا حديث الليبراليين عن الأخوة الإنسانية مجرد نفاق، وكان إلى ذلك مؤيدا لنظام الحزب الواحد، وداعية لدولة أحكام الطوارئ التي لا تقيم لسيادة القانون وزنا. وكان قد أصدر فتوى قانونية يبرر فيها إلغاء هتلر للديموقراطية بعد حريق الريخشتاق عام 1933، كما برر المذبحة التي قام بها النازيون ضد خصومهم في ما عرف بعد ذلك بليلة السكاكين الطويلة، وبطبيعة الحال كان معاديا للسامية ودعى إلى طرد الأكاديميين اليهود من ألمانيا. هذه الأفكار والإجراءات الشمولية هي أهم ما يميز الأنظمة الاستبدادية، فهي أنظمة عدوانية شديدة الردع، تقوم على ثنائية العدو والصديق ولا تتساهل مع أي قدر من المعارضة، كما أنها عادة ما تجنح إلى قانون الطوارئ لإحكام سيطرتها وقبضتها الحديدية على المجتمع. نجد هذا النموذج في تركيا التي يحكمها الإسلاموي طيب أردوغان، وأيضا النموذج المصري مثال صارخ لهذه الأنظمة التي تنتهك الحقوق المدنية بشكل متوحش. في الصين تقوم شهادات على أن خبراء القانون في جامعة بيجين استندوا ا إلى فكر كارل شميت لتبرير سيطرة الحزب الشيوعي الحاكم، ووجدوا فيه مادة الجدل ضد المبادئ الديموقراطية والقيم الغربية. وهذه الخصائص الثابتة لكل نظام شمولي مثالي هي نفسها خصائص النظام الاسلامي الذي ينظر له الإسلاميون، بل يتلاقى الإخوان المسلمون مع كارل شميت في نظرته التوسعية الاستعمارية التي صاغ لها مقولة “فليكن دائما هناك أعداء”، و في ما يسميه “الفضاء الواسع”، والكيانات الجيواستراتيجية المترامية التي تحكمها قوة عظمى مرنة. ولا يعوز الاسلاميين أن يجدوا تبريرا أخلاقويا لرغبتهم في ممارسة وظيفة احتلال الأراضي المأهولة من بطن كتب التراث. هذا هو نمط الاستبداد وروحه ومسلكه، وتلك هي بعض أعراض النظم الشمولية ومميزاتها، وهو لا شك مسلك مناقض للمسلك الليبرالي التقدمي للملكة التي تنهج نسقا متزنا في الحكم منفتحا على المكونات الثقافية والاتجاهات السياسية المختلفة، بل وتشجع المجتمع السياسي والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني على الإسهام في البناء الديموقراطي، والمشاركة في النقاش العمومي لترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وتحديث العقليات الرجعية.