كان للموعظة دورا في الحياة السياسية في تاريخ الإسلام، وهي اليوم من السنن المهجورة، ذلك أن فصل الدين عن السياسة، كما تقرره العلمانية المستوردة، يقتضي أن الوعظ والإرشاد مكانه الطبيعي المسجد أو الزاوية؛ ولولا أهمية الموعظة في الحياة السياسية لما سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن العرباض بن سارية قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح ، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودّع فأوصنا. قال : ” أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن أُمّر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة”. وعلى هذا المنوال سار السلف الصالح، فكانوا ينتقدون الحاكم، ويذكرونه بأمر الآخرة، ولا يزينون له الظلم، فأحيانا يقبل الموعظة بصدر رحب، وأحيانا يرفضها وتأخذه العزة بالإثم. أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن الحسن البصري رحمه الله، أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ(وكان خليفة ظالما) فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول :”إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ”( الذين يضربون الناس)، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِي غَيْرِهِمْ؛ وفي رواية قال له : وهل كانت فيهم حثالة، لا أمّ لك! كانوا أهل بيوتات وشرف، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يبيت إمامٌ غاشٌ لرعيته ليلةً، إلا حرم الله عز وجل عليه الجنة”. وقام أعرابيٌّ إلى سليمان بن عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين إنى مكلِّمك بكلامٍ فاحتَمْلُه إنْ كرهته، فإنَّ من ورائه ما تحبُّه إنْ قَبلْتَه، قال: هات يا أعرابي؛ قال: فإني سأطلق لساني بما خَرِسَتْ عنه الألسن من عظتك بحق الله وحقِّ إمامتك: “إنه قد اكتنفك رجالٌ أساءوا الاختيار لأنفسهم، فابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهم حربُ الآخرة سِلْمُ الدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لم يألوا الأمانة إلاَّ تضييعًا، والأُمَّة إلاَّ عسفًا، والقرى إلا خسفًا، وأنت مسئول عمَّا اجترحوا، وليسوا مسئولين عمَّا اجترحتَ، فلا تُصْلح دنياهم بفساد آخرتك، فأعظم الناس غبنًا يوم القيامة مَنْ باع آخرته بدنيا غيره”. فقال له سليمان: أمَّا أنت يا أعرابى فقد نصحت. إخواني أخواتي المناضلين والمناضلات: إن السياسة تجارة رابحة مع الله إن اتقيتم، فبها صلاح دنيا الناس ودينهم، وإنما الأعمال بالنيات، فمن كان نضاله لله ورسوله، فنضاله لله ورسوله، ومن كان نضاله لدنيا يصيبها أو منصب يرفعه، فنضاله لما ناضل من أجله؛ قال تعالى:(من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد،ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مومن، فأولئك كان سعيهم مشكورا). الشعب حمّلكم اليوم مسؤولية جسيمة، مسؤولية رعاية ماله وعرضه وصحته، وتعليم أبنائه وإرجاع الحق لأهله، وإقامة العدل بين أفراده، ومنازلة الفاسدين من أبناء جلدته..حمّلكم مسؤولية تدبير شؤونه بعد أن يئس من الشعارات الكاذبة، وتفرّس فيكم ذاك المنقذ من الغرق، وهو يرى خيراته تنهب في البرّ والبحر، والعصا فوق رأسه، وأبناؤه وبناته لا حول لهم ولا قوة. تفرّس فيكم ذلك المنقذ من الظلام، لما عرف عنكم من نظافة اليد وسعة الصدر والتواضع والرحمة بالمسكين واليتيم والأرملة، عساكم تنقذون أبناءه من أوحال المخدرات والخمر ومن قوارب الموت..عساكم تنقذون بناته من بيع شرفهن والارتماء في أحضان شبكات الدعارة بحثا عن لقمة العيش..عساكم تسترجعون بعض أمواله من فك التماسيح..عساكم تنقذون صحته من أمراض الفقر والأمية والجهل والظلم..عساكم تنقذون إدارته من المحسوبية والرشوة والزبونية.. نعم،أخي المناضل أختي المناضلة: حمّلك الشعب اليوم المسؤولية، راجيا بركة مرجعيتك التي ما فتئت تعتزّ بها، وترفع رايتها في كل مناسبة وحين، فلا تطلب المسؤولية لنفسك وذويك وأقاربك، فتبوأ بإثمك وإثمهم، لا تطلبها لنفسك فتكون صغيرا في عين الله، صغيرا في أعين الناس، ولا تنس أن الله سائلك عمّا استرعاك، قال تعالى:(فلنسألنّ الذين أرسل إليهم ولنسألنّ المرسلين، فلنقصنّ عليهم بعلم وما كنّا غائبين). كأني بك قد تعبت، وأنت ما تزال في بداية الطريق،إني لك من الناصحين : إياك أن تفرّ من المسؤولية التي ألبسك إيّاها الشعب، فتكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، إيّاك أن تفرّ منها وتتركها فريسة للتماسيح والعفاريت، فتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك.. أما علمت أن “الفرار يوم الزحف” من الموبقات؟.. أظننت أن طريقك سيكون مفروشا بالورود؟ أنظر عن يمينك، ثم انظر عن شمالك، سترى زحف الأفكار الهدامة، سترى زحف الفساد، سترى زحف الظلم والاستبداد، سترى زحف قمامة الحداثة من عري وخنا والتصاق الأجساد في الفضاء العام وفي إعلامنا المريض، سترى شيخا كبيرا يدفع عربة بحثا عن لقمة العيش، سترى شابا يحمل شهادة معتكف أمام قبة البرلمان، سترى مطلقة أو أرملة جالسة إلى جانب الفرّاشة، سترى شابة جميلة تضع ألوانا من المساحيق على وجهها تبتسم لكل من يغمزها، وقلبها يتفطر دماُ، سترى أطفالا يضعون “شيفونات” على أنوفهم، تنقلهم إلى عوالم أخرى، سترى طفلات هجرن مقاعدهن في المدرسة يقضين يومهن بين شيفون الأرض ومغسل الأواني… أما سمعت آهات هؤلاء، أما سمعت أنينهم؟ أما سمعت صراخهم؟ أما سمعت عويلهم ؟ أتراهم يعذرونك غدا يوم القيامة إن أنت قصّرت أو تهاونت أو استخففت؟ الشعب لم يخترك لتكون حائلا بينه وبين هؤلاء الذين يمتصون عرق جبينه، الشعب لم يخترك لتحول بينه وبين من لا يزالون في غيهم يعمهون، الذين لم يتعظوا بالربيع العربي… قل للعفريت والتمساح: ألم تر كيف فعل ربك بالقذافي الذي جمع فأوعى؟ ألم تر كيف فعل ربك بآل بنعلي وآل مبارك الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فصبّ عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد. قل للعفاريت والتماسيح: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبيس المهاد . قل للعفاريت والتماسيح: أنتم طلاب دنيا، ونحن طلاب الآخرة، والآخرة خير وأبقى؛ قل لهم : سيغلب الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ؛ قل لهم: نحن لكم بالمرصاد، سننازلكم حتى يفتح الله بيننا وبينكم، هو مولانا عليه توكلنا، وعلى الله فليتوكل المومنون. قل للعفاريت والتماسيح: تبّاً لكم سائر العام، أما تستحيون أن تهينوا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أما تشبعون؟ أما ترعوون؟ لا نجونا إن نجوتم. إخواني أخواتي: اليوم ليس يوم الغنيمة، اليوم يوم الملحمة، اليوم يوم التضحية، اليوم يوم الصبر والعطاء والمصابرة والتعاون على البر والتقوى، قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون).