التسجيلات السريّة بالكاميرا الخفية، إذا كانت تابعة لجهة إعلامية معلومة أو غيرها، كما هو الحال في برنامج القناة الثانيّة الدّنماركيّة TV2 التي تبثّه على حلقات متفرّقة لتشوّق المشاهد، وتترك له فرصة الأسبوع كلّه للنّقاش والحوار، حول ما أسموه "مساجد خلف الحجاب أو الستار"، تعدّ خرقا للقانون وانتهاكا لحرمة المكان وحسن الضيافة والاستقبال. وعلى المتضرّرين من هذه التصرّفات الرعناء الصبيانيّة الاستخباراتيّة المأجورة، توكيل محامٍ لمتابعة أصاحبها بتهمة استغلال الثقة التي وضعتها الجهة المتضرّرة في مَن قام بالتّسجيل السرّي الخفيّ… إنّ عدسات الكاميرا الخفيّة المحاطة بالسرية والتدليس، هدفها واضح وجليّ، الصيد في المياه العكِرة لإبراز شطحات الشيوخ والأئمّة وطلبة العلم واصطياد أخطائهم وهفواتهم داخل مؤسّساتهم وأماكن تعبّدهم؛ وهي تعدّ في نظر العقلاء اختراقا للخصوصية وحرمة مكان التعبد. وهي كذلك والأهم، من التجسّس الممنوع الذي يطاله للقانون في جميع بلدان العالم، لما فيه من إخلال بالمسؤوليّة الأخلاقيّة للمهنة. ثم إنّ الشيوخ والأئمة والدعاة بمختلف مستوياتهم التعليميّة والتكوينيّة، هم أوّلا وأخيرا من بني آدم الذين يسري عليهم ما يسري على جميع النّاس من سكّان كوكبنا الأرضيّ… يخطئون ويصيبون؛ فهم ليسوا من الملائكة ولن يكونوا. ثم إنّ على الجهات المتواطئة في مثل هذه التصرّفات الصبيانيّة التي لا تخدم عملية الإندماج، التي لا تتمّ إلاّ بتعاون من الطرفين وليس العكس، معرفة، بل عليهم التأكد التامّ، أن النّاس في زمن، لم يعد كما كان، من السهل استغلالهم واستحمارهم، وسحر أعينهم، بالصوت والصورة الخادعة المخادعة والمخيفة للمجتمع الدّنماركي عمدا، على أنّ الحادثة هي من الحوادث المسلّم بها قطعا. اليوم جميعنا يدرك تمام الإدراك، بل ويفرّق بين العمل الإعلامي النزيه الذي قلّ نظيره في زمن الاسترزاق. والآخر الغثّ الذي يرتكز في جوهره على صناعة الأفلام الهوليوديّة الهادفة للربّح الماديّ من خلا الخداع في المقاطع والفبركة والتقطيع واللصق، كما هوالحال في برنامج القناة الثانية. بالإضافة إلى ذلك، فأنّ المسلمين لا يخفى عليهم عمليّة البتر وتحريف الكلام عن مواضعه، كقول أحدهم: ويل للمصلين، دون ذكر ما من أجله كان الويل… ليست هذه هي المرّة الأولى التي رُئيت فيها هذه التسجيلات الاستخباريّة المدفوعة الثمن مقدما، فلقد سبقها غيرها، لعلّ من أكثرها بشاعة ما روّجه المخبر الجزائري الأصل الفرنسي المنشأ، الخبيث "السيفيوي"، زمن أحداث الرسومات المسيئة للنّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ولن تكون الأخيرة بل سوف تستمرّ ما استمرّ عضّ هؤلاء أناملهم من الغيظ… غير أنّه من جهة أخرى يجدر بنا الوقوف، بل التوقّف مع أنفسنا وقفة صدق وحزم ومراجعة حقيقية، لنعرف الأرض التي نقف فوقها فنعيش في أجوائها ورحابها. نتساءل، هل نحن في دولة إسلامية يتم فيها تطبيق الشريعة الإسلامية وتتبوّأ فيها مكانها اللائق، حتّى لا يزاحمها أيّ تشريع وضعي، فنهتمّ فيها بفقه النّصوص بعيدا عن التأثير وتأكيدا للتّرف الفكري؟ أم أنّنا في زمن ابتلي فيه الإسلام والمسلمون حتّى ما عادت قوانينُ بلدانهم الأصليّة تُمتدّ من التشريع الإسلامي، إذا استثنينا قوانين الأحوال الشخصية…! تساؤل ندرك من خلاله فداحة انصراف بعض المسلمين في بلد الإقامة الغربي (الدنمارك) أوأي بلد غير إسلامي إلى الاهتمام بمواضيع غير قابلة للتنزيل في العالم الإسلامي؛ ناهيك عن تنزيلها في العالم الغربي العلماني الصرف. حيث الإقامة التي لا بدّ أن يرجع فيها المقيم باستمرار إلى شروطها، التي ليس آخرها احترام قوانين البلاد… تساؤل قد يصرفنا عن الانخراط في حلقات دروس ليس لها في نظر العقلاء أيّة علاقة بواقع المسلمين الموجودين باستمرار تحت المجهر!… أحسب إنّ إثارة القضايا ذات الحساسية المفرطة في مثل هذه المجتمعات العلمانية الصرفة، هي من أهمّ عناصر استكشاف درجة (الغباء) لدينا نحن المسلمين!… أحسب أنّ النّطق بما في الإسلام يقتضي منّا فقها لما من أجله جاء الإسلام، فقد جاء بانيا غير محطّم ومساعدا على الحياة ليس معسّرا لظروفها أو مانعا لها… وليس من قول الحقّ أيّها الشيوخ والأئمّة والدّعاة الكرام، عدم الغفلة عن فقه تنزيل الحقّ… على الشيخ أو الخطيب أو الدّاعية الحاذق اللبيب، أن يكون ملمّا بالقوانين قدرا ما، عارفا بالمجتمع متقنا لغته ما أمكن، مجيدا طرق الوجود فيه، بدل أن يكون هدفا سهلا عرضة لكلّ من يحسن الطعن في الأجسام العارية!… ليست الدعوة حفظ النّصوص، ولكنّ الدعوة تكمن في طريقة عرض النّصوص وفي اختيار أزمان وأمكنة عرضها!… أين نحن من درئ المفاسد الذي هو مقدّم على جلب المصالح مثلا. أنا لا أنكر ما عُلم من الدّين بالضرورة عياذا بالله تعالى، وأقرّ أنّ ما هو في كتاب الله هو الحقّ الذّي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنّ ما صحّ عن رسوله صلّى الله عليه وسلّم، هو الحقّ لا مرية فيه كذلك. لكنّنا نتحدث هنا عن الحكمة التي تعني وضع الشيء في محلّه الصحيح بالوسائل الصحيحة والسليمة. يجب أن نعترف أنّ الحوادث والنوازل المرصودة – هذه النّازلة وغيرها ممّا سبق تسجيله في دول أخرى كثيرة، كقضايا الختان وضرب المرأة وغيرها – بغض النظر عن مصداقيتها من عدمها، تعكس بجلاء عمق الإشكالية لدى كثير من الشيوخ والأئمة وطلبة العلم الذين يتصدرون المنابر والفتوى، في قضايا كما قيل قديما: لو جُمع لها الصحابة لأعيتهم. ورغم أنّي لا أشك في نياتهم وغيرتهم وتفاعل بعضهم، بل وتفانيهم قدر الإمكان حفاظا على المناعة والحصانة الإيمانية والممناعة في الدّفاع عن حفظ الدّين وعقيدته ومبادئه وثوابته العامة. إلّا أنه للأسف هناك خلل في طرق إيصال المعلومة والخطاب الذي يحتاج إلى توازن، يراعي واقع الحال والمآل والمقام، آخذا بعين الاعتبار ومنطلقا من المناط تحقيقًا وتنقيحًا كما هو معروف. حتى تصل الفكرة نقيّة ناصعة، ويحصل التفاعل وتقطف الثمرة نافعة. وإذن؛ متى نتعلم من أخطائنا في التعامل مع الآخر، ونستفيد من التجارب لتفادي الوقوع مجدّدا في المحظور، لا سمح الله؟؟؟ ومتى نكون كما قيل: المُسلم كيّس فطن، وليس كيسُ قُطن!!. يجب أن ندرك أنّ واقع الحال أصبح يلح على اتخاذ تدابير صارمة في مساجدنا ومصلياتنا حتى لا تتكرّر وتُستنسخ التجارب والحوادث. كما أنّ كثيرا من وسائل الإعلام لن ترحم أحدا؛ فتلك مهمّتها وغايتها؛ فهي (بعض وسائل الإعلام) تعيش وتقتات على الأخطاء والهفوات في الأقوال والأفعال والتقريرات، وتعتبر كثيرا من قضايانا لا تتماشى مع قيم ومبادئ المجتمع العلماني الصرف. خلاصة القول؛ ليس كل الدّعاة على درجة واحدة من العلم والدّراية والفهم العميق للواقع والبيئة والمناط، رغم أنّ كثيرا منهم على غير ذلك الوصف ولله الحمد. وما لم تحدث مراجعات جوهريّة وصادقة لنوعيّة الخطاب الدّيني الدّعوي، من خلال ما أسلفنا ذكره من تقديم الأولويات، وتحقيق المناط تنقيحا وتصحيحا، ومحاولة دفع المفاسد قبل محاولة تحصيل المصالح، ثمّ بإخضاع الخطباء والمشايخ والدّعاة لعمليّة التدريب المستمر من طرف أُطر وازنة لها ثقلها ومصداقيتها في العمل الدّعوي والخط الوسطي، يراعي البيئة والمناط والدّار المُفتى على أرضها، فسنبقى نراوح أماكننا، وندور حول أنفسنا في متاهة لا يعلم إلّا الله وقت خروجنا منها!… وقد ننتهي – لا سمح الله – ولا علم حصّلنا ولا دعوة أسدينا.