نقرأ في مدارس اللغة أو في المراكز التي تكثر فيها الكورسات للمعوّقين وللمحرومين من العمل بسبب من الأسباب، أنّ الجميع وخاصّة الأجنبي في الدنمارك مطالب بالسعي إلى التعايش وقبول الآخر… ونتّفق على أنّ من أهمّ الوسائل المساعدة على ذلك، اللغة والعمل ومعرفة المجتمع وعاداته. وقد ينبّه بعضُ الأجانب إلى النّقطة المُراد لها الطمس والمتمثّلة في معرفة عادات القادم واحترامها كي يكون الجميع – كما يردّد الجميع – إضافة للمجتمع الذي بات بحكم التحوّلات والتراكم التاريخي العادي ملتقى الحضارات والأعراق والأديان، وبات المرجع الوحيد للتعايش فيه هو المواطنة التي تحتكم إلى قانون البلاد. هذا القانون الذي قد يتأثّر بالمحيط وبسلوكات المجتمع تسريحا وتقييدا… لو التزمنا بما قرأنا، ولو تواصلنا كما ينبغي لنا أن نتواصل، ولو رَددنا السلام كما منعناه أو امتنعنا عنه، ولو ابتسمنا لبعضنا ورحّبنا كما ابتسمنا لترحيب بعضنا بكلاب بعضنا، لكنّا مجتمعا دنماركيّا رائدا في محيطه، قد استفاد من طيبة أهله الطيّبين واستفاد كذلك من بشاعة بعض أهله العنصريين البشعين!… نستفيد من الطيّبين حبّا ونستفيد من العنصريين والبشعين درءًا للكره وللتباغض!… غير أنّا لم نفعل كلّ ذلك بسبب أناس في الدنمارك لا يريدون لنا فعل ذلك!… أناس تنوّعوا فكان منهم الدنماركي العنصري غير المتعامل مع الأجنبي وخاصّة منه المسلم، وكان منهم الأجنبي الكاره لقومه والكاره لدينه وأصله وفصله ممّن أسّسوا بتوجّههم هذا قاعدة انطلاق ينطلقون منها لإفساد كلّ صالح ومنع كلّ مصلح، مستغلّين في ذلك بعض الهفوات السلوكيّة أو الكلاميّة أو الكتابيّة… ومن هنا فقد كان عدوّ المسلمين الأوّل في الدنمارك منتسبا للإسلام، عربيّا أو هو غير عربيّ من وطن عربيّ، كما فعل النّاصر خضر عضو البرلمان السابق الذي استمات في المطالبة بعدم اعتذار الدنمارك للمسلمين إبّان الرّسوم المسيئة للرّسول الكريم، وكما يفعل هو نفسه اليوم مجتهدا لإغلاق مسجد للمسلمين يقع بثاني أكبر مدن الدّنمارك أوغهوس، وكما يفعل صديقه الذي نجح في استقطابه ونقله من ناطق باسم المسلمين مدافع عنهم إلى ناطق ضدّ المسلمين مبديا عوراتهم مكثّرا من كبواتهم وعثراتهم!… وكما فعلت هذه السودانيّة المرتدّة عن الإسلام المتمعّشة في عملها الساقط من حجاب الإسلام ونقابه، لاصطياد مشايخ تُنطِقهم متضامنين معها وتفضحهم في الصحافة "بشعين" "خونة" للقيم الدنماركيّة!… ويبقى السؤال يدور حول قدرة هؤلاء (الأجانب وخاصّة المسلمين) على التعايش في المجتمع… ويبقى السؤال يدور حول الثمن المدفوع من طرف هؤلاء لتحقيق ذلكم التعايش المكرّه في بعض منعطفاته للعيش وللحياة!… وقبل الاستمرار في البحث عن الإجابة، يجدر بنا التذكير بالحقيقة الأزليّة التاليّة، وهي أنّ الله تعالى لمّا بعث محمّدا صلّى الله عليه وسلّم بالإسلام تكفّل تعالى بحفظ التنزيل، وقد رأى النّاسُ مِن قبل ما فعل النّاسُ في الدّين وكيف غيّروه حتّى صار اللهُ ثالثَ ثلاثةٍ!… فالإسلام لن يُغيّر مهما بذل أعداؤه من جهد لتغييره، ومن هنا كان لا بدّ أن ينطق الشيخ (أيّ شيخ) بحكم الله في أيّ مسألة دون تغيير أو تدليس أو مجاملة أو مداراة، وإنّما يكون اجتهاده في التنزيل زمنًا ومكانًا!… ومن هنا لم يكن شيخ أوغهوس – حسب رأيي – قد أخطأ لمّا تحدّث عن حكم الزنا في الإسلام، وإنّما أخطأ بعدم التعقيب القاضي ببيان أنّ الحكم الآن معطّلٌ في بلاد الإسلام ناهيك عن تناوله في الدّنمارك التي لا تدين بالإسلام!… ولن يفلح بعد ذلك المتصيّدون في المياه العكرة من اتّهام الإسلام بالعنف، فإنّ عقوبة الزنا زمن تنفيذها لم تنفّذ إلّا قليلا، ولم نسمع إلّا عن حالة أو حالتين يحفظهما المنتمي للإسلام وغير المنتمي، حالة الغامديّة التي اختارت لنفسها بحكمتها إقامة الحدّ عليها، وحالة ماعز… وعلى من استبشع الجلد أو الرّجم في الإسلام ترغيبا للنّاس في مواقفه وفي ذاته الخائنة للإسلام؛ مراجعةُ تاريخ الشعوب التي يريد استهواءها بكرهه للإسلام. ويكفي النّاصر خضر مثلا مراجعة الطريقة التي مات بها الطبيب الألماني المشهور عندما خان الملك في أهله، كي يستهين بعدها بأيّ عقوبة شرعها الإسلام الحنيف!… ومن هنا فإنّ محاولات تبشيع الآخر بهدف رفض التعايش معه؛ تظلّ محاولة متخلّفة تُلبس صاحبها تهمة عدم سعيه إلى بذل الجهد الكافي من أجل التعايش المطلوب… ليعلم الجميع أنّنا نحن المسلمين نحبّ النّاس جميعا ونحبّ لهم الخير لا نستثني منهم الّا الذين ناصبونا العداء الظاهر الواضح واستحسنوا لنا الموت عوض الحياة… رسالتنا التعارف والتعامل مع النّاس والصبر عليهم… نتعامل بانفتاح مع الجميع… نترفّق بالجميع… نصوصنا في الكتب والمكتبات والنّات، وهي سانحة للجميع… وعليه فقد كان جواب الإمام محمّد بلاعو حفظه الله، للجاسوسة البشعة المتنكّرة بالزيّ الإسلامي، بعدم السعي إلى الشرطة نوعا من الرّفق بها وبزوجها، فإنّ الذهاب إلى الشرطة أو إلى القضاء يأتي في منعطف عدم الرّجعة وعدم الإصلاح بين الزوجين… بل إنّ الشرطة نفسها – أحسب – ترحّب بهذا السلوك الحضاري المساعد لها على تفرّغها لما يضمن أمن البلاد وأمن المجتمع بدل أن نكبّلها بمسائل مجتمعيّة يجدر بالمجمع وبمؤسّساته المدنيّة العناية بها، بل لقد نبّهني أحد الإخوة العارفين بالشأن أنّها تستعين بالأئمّة لحلّ مشاكل الأزواج!… هذا، وأحسب أنّ ردّ فعل الإمام أو المسلم في المستقبل لن يكون بعدم الردّ على الأسئلة تحسّبا للجواسيس الساقطين أو مراعاة للمسلمين المرتجفين الحريصين على الدنيا أضعاف أضعاف حرصهم على الحقّ، ولكنّه يكون بالبيان وبحسن تنزيل النصّ والتفقّه فيه، دون ضرر أو ضرار… كما لا يكمن الحلّ للمسلمين في التلاعن أو في إلباس الغائب ما لا يجب إلباسه أو في التبرّؤ منه ومن مواقفه، فإنّ ذلك لن ينفعهم بل يزيد من إظهارهم غثاء كغثاء السيل فتكثر الاستهانة بهم!… وأمّا الصحافة، فقد كان ينبغي لها أن تتمسّك بأخلاق المهنة، ولا تجعل منها وسيلة للإرجاف وللتدافع غير الإيجابي في المجتمع الواحد، ولا تكون سبب إحداث شرخ مخيف بين الدنماركيين والدنماركيين الجدد، فإنّه لا أحد يمكنه عزل الآخر أو إقصاءه في مجتمع عبّرت غالبيته عن إنسانيّة رفيعة وعن سلوك حضاري وتعايشت في إطار مواطنة سدّت الفجوات فيها بالديمقراطيّة… وقد كان يجدر بها كذلك استعمال أهل القيم الحريصين على الحقّ بدل أن تُرِي نفسها بشعة بشاعة الذين استعانت بهم من فاقدي القيم والانتماء لإبداء عورات الذين أضمرت هي معاداتهم، كما عليها – وهذا مهمّ جدّا – التخلّص من مقصّها العنصري كي لا تبدي من القول هامشه وتطمس لبّه، فإنّ الكذب مهلك، وأكثر ما يكون إهلاكه في كثرة شيوعه!… ولو نطق الجميع بما يعلم لاستحالت على النّاس الحياة، ولعلموا أنّ ما يُقال عن المسلمين والأئمّة هو نقطة بسيطة في بحر مترامي الأطراف، ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون… عبدالحميد العدّاسي